دي ميستورا… تجميد الإرهاب أم إنقاذه!
د. تركي صقر
لا يجب أن يغيب عن بالنا أنّ مهمّة أي موفد دولي، مهما كانت جنسيته، تتأثر بالنفوذ الأميركي وإلى درجة فاضحة في كثير من الأحيان، لكن في الحالة السورية وخاصة بعد حدوث تبدّلات كبيرة في موازيين القوى على الأرض لصالح الدولة السورية، لم يعد النفوذ الأميركي مستفرداً ووحيداً، بل غدا الموقف الروسي والإيراني فاعلاً ومقرّراً أيضاً. وعليه فإنّ الطرح الذي حمله دي ميستورا إلى دمشق بتجميد القتال في حلب، صحيح أنه جاء مدفوعاً إليه من الإدارة الأميركية أو على أقل تقدير محاطاً بدعم وتشجيع أميركي، ما كان ليتم لولا الموافقة الروسية المسبقة، وهذا ما دلّ عليه تزامن الحديث عن موسكو 1، ما يؤشر إلى حضور روسي أكثر تأثيراً وفعالية في الحلّ السياسي للأزمة في سورية.
حرص دي ميستورا على الابتعاد عن استخدام كلمة هدنة واستخدم كلمة تجميد، لأنّ جميع الهدن السابقة فشلت، واللافت أنّ دي ميستورا استوعب الفشل الأميركي في فرض استسلام على سورية، وأنه وقف على حجم القوى الإقليمية والدولية التي تعارض بقوة أي نوع من أنواع فرض الاستسلام عليها، الأمر الذي أرغمه على سلوك طريق مزدوج فيه تجاهل ظاهر للموقف الأميركي الداعي إلى الاستسلام، وفيه اعتراف بدور القوى المعارضة للسياسة الأميركية التي تقف إلى جانب سورية في معركة الحفاظ على سيادتها ووحدة أراضيها ومؤسساتها الشرعية. والسؤال المطروح: هل ينجح دي ميستورا حيث فشل غيره؟
حتى الآن، هناك من رحّب بطرح الموفد الدولي سواء في موسكو أم في واشنطن، وهناك من لم يرفض كدمشق، وفي المقابل هناك رفض من أطراف المعارضة للاستهلاك الإعلامي، وهناك من سيمنع بالحديد والنار تنفيذ هذا الطرح، أي العصابات الإرهابية على مختلف مسمياتها ومن يقف وراءها، لا سيما تركيا وقطر.
إذا أراد دي ميستورا أن تكون خطوته ناجحة فعليه أن يضع نصب عينيه أموراً يؤدي تجاهلها إلى إجهاض مهمّته، كما أجهضت مهمّات من سبقه وهذه الأمور تتمثل في ما يلي:
– انطلاقه من الإقرار بحقيقة أنّ السبب الأساس في كل ما يجري في سورية هو التدخل الأميركي- الغربي مع أنظمة خليجية، وبشكل سافر في قضايا داخلية تخصّ الشعب السوري وحده، وما الإرهاب الذي يجري استخدامه لتدمير سورية، سوى صناعة أميركية غربية خليجية صرفة تستطيع واشنطن، إن أرادات، في أية لحظة وقفها.
– على دي ميستورا ألا ينخدع بأكاذيب وجود القوى المعتدلة بين التنظيمات المسلحة، فالإرهاب هو الإرهاب، لا تمييز فيه بين متطرف ومعتدل وجميع من تطلق عليهم واشنطن قوى معتدلة مارسوا شتى صنوف الإرهاب والإجرام وارتكبوا الفظائع.
– على دي ميستورا السعي الحثيث إلى تجفيف منابع الإرهاب بكل أنواعها البشرية والمادية، وهنا يكمن الاختبار الفعلي للدول الغربية التي نجد الكثير ممن يحملون جنسيتها يرتكبون الجرائم الإرهابية على مساحة الأراضي السورية ويتدفقون بالآلاف من دون توقف.
– لا جدوى من أي تجميد في أية منطقة حتى لو صمد، ما لم يتم وقف إمداد الإرهابيين بالأسلحة والعتاد والذخائر والأموال الطائلة، وبشكل جدي لا إعلامي، أما القول بتسليح المعارضة المعتدلة فهو نفاق يخفي الإصرار على العدوان وإطالة عمر الأزمة.
– ثابت الثوابت الذي ينبغي على دي ميستورا أن ينطلق منه في كل خطوة، في حلب وغير حلب، هو أنّ سيادة سورية قيمة لا تفريط بها ولا تنازل عنها ولا تتجزأ، وأنّ أي مسّ بهذه السيادة يعني فشل أي حلّ سلمي يبحث عنه الموفد الدولي.
– على دي ميستورا أن يدرك جيداً أنّ سورية التي قاتلت الإرهاب طيلة السنوات الأربع الماضية، غدت في حال يمكّنها من القول بأنها قادرة على اجتثاثه من أراضيها من دون أن تفرط بشيء من حقوقها، وأنّ ما يقوله بأنّ كل الأطراف تعبت ولذلك ستقبل بأي حلّ، ليس دقيقاً، وبالنسبة إلى الدولة السورية، فهي وإن كانت تريد الحلّ السلمي وتعمل للوصول إليه، لكنّ ذلك لا يعني أنها عاجزة في الميدان كما يحاول البعض أن يوحي، بل هي تريد حقن الدماء وحفظ ما أمكن حفظه واستنقاذه من أيدي الإرهابيين .
– على دي ميستورا أن يعلم أنّ الإرهاب لا يمكن أن يكون محلّ ثقة، وقد أثبتت التجارب والهدن السابقة أنّ الإرهابيين لا عهد لهم، وأنهم أصحاب سوابق في تخريب المصالحات الوطنية ولا يمكن أن يكونوا طرفاً في حوار وتفاوض أو اتفاق، فالحديث مع الإرهابيين الغرباء له لغة واحدة هي النار في الميدان حتى تطهير الأرض منهم، ولا يمكن أن يُمنح هؤلاء فرصة مهما كان عنوانها، بما في ذلك وقف إطلاق النار أو تجميد النزاع أو الممرّات الآمنة وغيرها.
إذا انطلق دي ميستورا من هذه المعطيات فإنه سيكون على مقربة من إحراز كأس النجاح، ويستطيع حينها أن يقول لمن سبقه: لقد كسبت الرهان فيما فشلتم فيه، أما خلاف ذلك، فمن حقّ السوريين أن يكون لديهم توجّس وريب من طرح دي ميستورا، وشكوك في أنّ ما يريده هو تجميد الإرهاب لا تخليص سورية منه، وإنقاذ المسلحين الإرهابيين من الهزيمة التي وصلوا إليها في حلب وليس إنقاذ حلب من براثنهم، وهنا سيحكم دي ميستورا مبكراً على مهمته كلها بالفشل وسيلتحق بصفّ المنحازين الفاشلين الذين سبقوه.