لبنان… يا «شبر ميّ»!

أحمد طيّ

باقٍ وديع لبنان الصافي في وجداننا على رغم رحيله إلى حيث هو الآن. وباقية أغانيه الخالدة التي «نرندحها» كلّ صباح مواويلَ تهذّب الروح وتبعث الفرح الجميل في ذواتنا. وسرمديّ ذلك الصوت الجبليّ السّهل الممتنع الذي حاول كثيرون الوصول إلى نقاوته وكنهه وعظمته فاقتربوا وداروا حوله ولم يصلوا.

وإذا كان الحنين إلى الطفولة يستدعي منّا كلّ فترة استذكارَ موّال «مِن يوم مِن يومين كنّا زغار»، فإنّ مدّعي «حكاية» لبنان الوطن الذي وُلد على هذه الشاكلة منذ فجر التاريخ، وهو سيبقى على هذه الشاكلة أيضاً إلى أبد الآبدين، يطلعون علينا كلّ مرّة بأغنية وديع الصافي التي كتبها هو ولحّنها: «لبنان يا قطعة سما»، في إشارة منهم إلى أنّ لبنان ـ على غير هَدي كلمات الأغنية ـ أزليّ أزليّ أزليّ. ومنهم أيضاً مَن يستعمل تلك الأغنية في إشارة إلى جمال لبنان وروعة طبيعته، وهنا استعملوا الأغنية في الموقع الصحيح والسليم.

لسنا ـ في هذا المقال ـ في صدد تشريح أغاني العملاق الراحل الباقي وديع الصافي بحسب فهم اللبنانيين أو وجهة استعمالهم هذه الأغاني. ولسنا في صدد النقد ولا الإطراء، إنما مررنا بهذه الأغنية لنقول إنّ لبنان هذا، لم يعد «قطعة سما»، ولا حتّى «قطعة أرض» يمكننا أن نروّج عبرهما للسياحة في لبنان. لبنان هذا، وفي هذه الفترة الشتوية بالذات، يصير «شبر ميّ» لا أكثر.

كثيرة هي التقارير الصحافية التي تتناول أوضاع الطرقات اللبنانية لدى حلول نعمة «الشتوة الأولى»، أو ربما «الشتوة الثانية». وصحافيون كثيرون يُظهرون للشعب اللبناني وللعالم عبر أثير الفضائيات وعبر المواقع الإلكترونية والمدوّنات ومواقع التواصل الاجتماعي، ما آلت إليه الطرقات في لبنان بعدما اجتاحتها السيول التي لا يعرف أحد من أين نبعت.

ولن نكرّر ما كُتب سابقاً أو أُذيعَ عنه، أو صُوّر، فاللبنانيّ المقيم صار يعرف تماماً ما يحدث في لبنان لدى هطول الأمطار، تماماً مثل اللبناني المغترب حتى في بلاد «الواق واق».

ما نريد أن نثيره اليوم، ليس مجرّد تساؤلات لا يجد المعنيّون وقتاً للإجابة عليها.

في لبنان، وفي العاصمة بيروت وضاحيتيها الجنوبية والشرقية تحديداً، لدى هطول الأمطار، تتكشف الفضائح. الفضائح في الأشغال والمشاريع والبنى التحتية. فلا مسارب المياه تعمل، ولا أقنيةَ تحت الأرض تستطيع استيعاب ميلليمترات مكعّبة قليلة من مياه الأمطار، التي سرعان ما تفيض، فتتحول أنهاراً، لا بل سيولاً، تُغرق الناس والسيارات والمارّة، وتتسبّب بزحمات سير خانقة.

ولعلّ ما نريد توضيحه هنا أمر واحد يتمثل بالمسؤولية. مسؤولية هذا الغرق في «شبر الميّ» من يتحمّلها؟ مسؤولية هذه القباحة من يتحمّلها؟ مسؤولية هذا التخلّف مَن يتحمّلها؟

قرأنا كثيراً في الروايات التاريخية الغربية لا سيما الأوروبية، وما زلنا نشاهد إلى اليوم أفلاماً غربية تُظهر لنا أنّ الغرب ابتكر البنى التحتية منذ مئات السنين. واطّلعنا من خلال هذه القراءات وهذه المشاهدات على الأنفاق الموجودة أسفل كل! مدينة أوروبية. ولا نبالغ إن قلنا إن هذه الانفاق تحت الأرض ـ لا كنفقَيْ المطار وسليم سلام الهزيلين ـ تستطيع قوافل محمّلة من الشاحنات السير فيها، قرب أنهارٍ من فائض الأمطار، أو ربما المياه الآسنة. أما في لبنان، فإنّ الدولة على تعاقب حكوماتها، تعيّرنا و«تربحنا جميلاً» في استحداث «ريغار» هنا أو مسربٍ هزيل هناك.

إنّ مسؤولية هذا التخلّف الحاصل في شوارع بيروت وضاحيتيها تقع على الدولة بالدرجة الأولى، فهي التي تنكّبت مهام إدارة البلاد، فتجدها تجبي الضرائب لكنّها لا تحترف إلى السياسة التي تودي بنا إلى التفرقة فالتهلكة.

إنّ مسؤولية هذه الفضائح التي نواجهها في الشوارع لدى هطول الأمطار تقع على وزراء الأشعال العامة والنقل جميعاً: الحالي والسابق والأسبقون، الذين قصّروا، عن عمد أو عن غير قصد، في هذا المجال.

إنّ هذه الفضائح تتحمّل مسؤوليتها المؤسسات الرسمية المعنيّة بالرقابة، التي لا تراقب تنفيذ الأشغال على الطرقات، وإن راقبت لا تكتب ولا تدوّن، وإن دوّنت فتذهب التقارير المسطّرة بحقّ مخالفي دفاتر الشروط إلى «غياهب الجوارير».

إنّ مسؤولية هذه الفضائح تقع على كلّ موظّف في التفتيش المركزيّ، «من أزغر موظف لأكبر مدير»، خصوصاً الذين علقوا في زحمة سير، أو مَنْ غرقت سيارته في سيلٍ ما.

وإذا كانت مسؤولية هذا التخلّف الحاصل في شوارع بيروت وضاحيتيها تقع على الدولة بالدرجة الأولى، فإنّ مسؤولية الشعب اللبناني، لا تقلّ أهمية أو درجات عن مسؤولية الدولة. فنحن لا نرى رئيس جمهورية ـ حبّذا لو يُنتخَب قريباً ـ يأمر المواطنين أن يرموا مقذوراتهم اليومية في الشوارع، والتي سرعان ما تطفو على سطح السيول والأنهار في الشوارع لدى هطول الأمطار، أو تسدّ المسارب التي لا تستطيع استيعاب هذه الكميات القليلة من الأمطار حتّى.

مسؤولية المواطن كبيرة أيضاً لأنه اعتاد الكسل، يطالب بحقوقه في جلسات السمر أو لعب الورق، أو من خلف حاسوبه، أو عبر اتصال بإذاعة أو برنامج تلفزيوني، وهنا يخرج علينا المذيع قائلاً: «إن شاء الله صوتك يوصل للمسؤولين»!

يا أخي إن المسؤولين لا يسمعون لأنهم لا يريدون أن يسمعوا. إن المسؤولين لا يشعرون بـ«السخن» إلا عندما يهب الشعب، كلّ الشعب بثورة عارمة ضدّ الفساد والظلم وهدر الحقوق.

إن مسؤولية المواطن اللبناني كبيرة لأنه احترف أمرين: الصمت والتبعية. فإن لم يتبع أحداً كان صامتاً ضعيفاً هزيلاً. همّه لقمة عيشه التي تركض أمامه ويعدو خلفها، وبينما هو يعدو تجده يقضم جزءاً من أحلامه فتضمحل وتضمحل حتّى تتقزّم إلى إرادة العيش فقط… «بدنا نعيش».

أما من احترف التبعية من الشعب، فتراه يردّد كالببغاء ما حفظه عن أسياده: الحق على هذا الفريق… الفريق الآخر هو المسؤول… همّنا الآن الأوضاع الأمنية لا زحمة السير…»، يا أخي لو استغلّ أحمق متطرّف «داعشيّ» ما فرصة زحمة السير وفجّر نفسه، لك أن تحسب عدد الضحايا.

تكثر المسؤوليات وتكثر الجهات التي تقع عليها هذه المسؤوليات. ومَن أراد أن يعيد لبنان مِن «شبر ميّ» إلى «قطعة سما»، عليه بمحاسبة المقصّرين، من «أزغر مواطن لأتخن مسؤول».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى