البرامج الانتقادية اللبنانية الساخرة تكرّر نفسها ولكن!!
بدأت الانتقادات الساخرة على الزعامات اللبنانية في المغناة الشعبي أو الزجل، ومن ثم عبر المونولوج الذي قدّمه حنين، وهو مغنٍّ سبق عمر الزعني 1895 1961 في هذا المجال، وحينما انطلق الزعني في الغناء الانتقادي والمونولوج استغنى عن دراسة الحقوق، وعن إدارة الكلية الإسلامية، وطُرد من معهد اليسوعية بسبب انشاده «حاسب يا فرنك» عام 1923 ضد فرنسا التي تعاني من تدهور عملتها، وتبنى اسم «حنين» تيمناً بمن سبقه، ولأن والده اعتبره مهرّجاً، وحتى لا يُحرج أهله وعائلته أصدر الزعني اسطوانتين باسم «حنين» عام 1927 لحساب شركة «أوديون»، وبعد نجاحه عاد إلى اسم عمر الزعني!
ويعود الفضل إلى الزعني في تكريس هذا النوع من الغناء المونولوج اللاذع، وقد أمر الرئيس بشارة الخوري بسجنه ستة أشهر عام 1950 حينما غنى عنه «جدّد له ولا تفزع – خليه قاعد ومربّع» رافضاً التجديد للرئيس، وفي ما بعد أصدر الرئيس عفواً جمهورياً عنه بعد أن سجن 40 يوماً.
بعدها قرّر الزعني انتقاد الانتخابات الرئاسية والنيابية، والتزوير فيهما، وأولاد النواب والزعماء دون التطرق إلى قلة الأدب والجنس كما حاصل اليوم، وتحديداً ما قدّمه إيلي أيوب ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية في بعض مونولوجاته.
في الغناء
في الغناء اللبناني كان الملحن فيلمون وهبي، والذي بدأ مغنياً ميالاً إلى الغناء الانتقادي والمونولوج، وكلنا يتذكر «سنفرلو ع السنفريال شو ما قلك سنفرلو» والتي غنّاها في عهد الرئيس سليمان فرنجية!
وأيضاً المطربة الأسطورة صباح قبل سفرها وبعده إلى القاهرة لتصبح مطربة وممثلة ظاهرة كبيرة تُدرس في ما بعد. كانت صباح تحب الغناء الانتقادي الاجتماعي بعيداً عن الإسفاف والتطاول على الشخوص، ومن الطبيعي أن تنطلق السيدة صباح مع غناء الموال والزجل، وأن يستهويها غناء ما يشبه المونولوج الانتقادي لكونها شابة مشاغبة وشقية، وروحها مرحة ورشيقة وخفيفة الظل، وكانت تحنّ في أغانيها بعد أن اصبحت مطربة كبيرة تُحسَب لها الحسابات إلى هذه النوعية من النقد الاجتماعي، ونذكر «ضيّعنا الطاسة»، و»تغندري يا مغندرة»، و «شرن برن»، و «نوسي نوسي»، و»أبو طنوس» ضمن أعمالها المسرحية فقط.
وقد تعاونت الأسطورة صباح مع عمر الزعني غنائياً بعيداً عن اسلوبه الانتقادي، حينما كان مشرفاً فنياً في الإذاعة اللبنانية عام 1953، إلا أن تلك الأعمال لم تسجل، ومفقودة من الإذاعة!
كما لا بد أن نذكر تجربة غسان الرحباني مع بعض ما غناه على طريقة المونولوج الانتقادي بأسلوب مغاير كلياً.
في المسرح
ومن ثم أخذ المسرح اللبناني على عاتقه تقديم هذه المهمة، وقد تألق فيها مسرح شوشو، وأحياناً المسرح الرحباني بذكاء وإيحاءات سياسية، ومنها «صح النوم»، و»ناس من ورق»، و»يا عيش يا عيش»، وكل مسرحيات وسيم طبارة مع السيدة صباح، ومنها «ست الكل»، و»حلوة كثير»، «وشهر العسل»…
وفي منتصف الستينيات بدأ مسرح «الساعة العاشرة» مع عبدالله نبوت الملقّب بـ «دودول»، وخصص للكبار فقط، ولم يكن يسمح للشباب والأطفال مشاهدة تلك المسرحيات النقدية الساخرة، والناقمة على الساسة، والواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
ومع انطلاقة الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 اعتزل دودول المسرح، ليُتابَع من بعده المشوار، ونذكر ابراهيم مرعشلي وغيره، وخلال تلك الحرب انتشر مسرح شبيه لكنه أكثر سخرية، وبإيحاءات جنسية فاضحة أطلق عليه مسرح «الشونسونيه»، وهو أتانا مستورداً من باريس، اشتهر بتقليد الزعامات بأساليب كاريكاتيرية ضاحكة، ونذكر ايفيت سرسق ابنة العائلة البيروتية الارستقراطية، والتي بدأت عام 1959، ووسيم طبارة ومحمد شبارو، وبيار شمسيان، وأندري جدع…..
هذا النوع من المسرح غير المكلف إنتاجياً، ولا يتطلب صالة عرض، بل يعرض في المطاعم وما شابه، كان منفساً للشارع اللبناني الغارق بالحرب الأهلية التي أصبحت حرباً لحروب الآخرين في لبنان، والأهم أن هذا المسرح أصبح عملاً لمن لا يجد العمل، كما انطلقت منه تمثيلاً متواضعاً العديد من الوجوه الفنية، ومنهم المغنية اليسا مع فرقة وسيم طبارة!
قد يشير بعضهم إلى ما يقدَّم بحجة الفنّ والمسرح تحت اسم «كوميدي شو» في النوادي الليلية، وما يتناوله من سخرية فاضحة، وقلة أدب في فهم الحرية، خاصة ما يقدّمه ماريو باسيل، وبصراحة هذا ليس فناً، وليس مسرحاً، بل سهرات خاصة فيها دعارة مع القليل من الفن المسفّ!
في التلفزيون
مع انتشار ظاهرة الفضائيات خفّ وهج أعمال «مسرح الشونسونيه» الذي لم يطوّر أدواته، وبعضه أصبح بوقاً وطرفاً سياسياً مما اعاق استمراريته، واحتلت البرامج الانتقادية الضاحكة «الكوميديا السوداء» مساحة كبيرة في التلفزيونات اللبنانية، ووسعت دائرتها وانتشارها بعد الانطلاق الفضائي، وبما أن كل فضائية لبنانية تابعة إلى الزعيم الذي لا يُقهر، وملوّنة بلون طائفي معين، ومتخمة بالسياسة المتطرفة، وبتخوين الآخر الذي لا ينتمي إلى سياستها، والخائن في لبنان يتربّع على الوظيفة والحرية والزعامة لأننا نعيش في زمن «العمالة وجهات نظر»، بسبب وطن الطوائف الخائفة من بعضها، ولا تحاسب العميل الكبير وبالتحديد العميل الصهيوني، والفاسد التاجر بأرواح وممتلكات الشعوب اللبنانية.
صحيح هذا حالنا، لذلك من البديهي أن تصبح البرامج الانتقادية السياسية المتمسخرة من أساسيات الفضائيات اللبنانيات، ومنها ما نجح، وتحديداً عبر قناة ال بي سي، وبالأخص ما قدّمه عبرها المخرج المبدع شربل خليل يحتاج مقالة مستقلة ، وكان قد سبقه إلى ذلك سامي خياط، والفنان كريم أبو شقرا في المحطة ذاته من خلال اسكتشات انتقادية ساخرة اجتماعياً.
ونتذكر بشغف، وبمحبة، وبشوق لتلك المرحلة رغم قسوة أيامها على لبنان «أسأل شي» على «ام تي في»، عمل فرض موهبة غالبية العاملين ببرامج كهذه، وربما قدم الجميع لأول مرة، ومنهم طوني أبو جودة، وفادي رعيدي، وناتالي، ونعيم، وعادل، ورولا، والأهضم من الجميع طلال عيد الذي اختفى، وغاب عن الساحة دون مبرّر!
برنامج «قربت تنحل» على قناة الجديد حصد الكثير من النجاح، إلا أن تغيير الممثلين بشكل دائم، وإصرار المسؤولين عن البرنامج تقديم رسائل سياسية مباشرة كانت في البدايات مقبولة أما الأن فأصبحت مملة لا تضحك أبداً، وهذا أعاق تميزه…
وبرامج مشابهة لم يحالفها الحظ رغم تكرار المحاولات، وبالأخص ما قدمته قناة «ان بي ان» عبر انطلاقتها، وكذلك حدث ويحدث مع «او تي في» التي نجحت مع نجاح «أوفريرا» وفريقه هشام حداد، وكريستيان زغبي، ونسرين، وماهر حداد، وشفيق سعادة، وبعد خروج هذا الفريق سعت المحطة مع مَن تبقى لتقديم وجبات مشابهة، ولكن حتى الآن لا تميز ولا نجاح بالتقليد، وكذلك تلفزيون لبنان، وقناة «المنار»!
قناة «المستقبل» قدمت برنامج «لا يمل» بطولة نعيم حلاوي الذي يعود الفضل الأول إليه في توجيه مَن شاركه، وتحديداً عباس شاهين، ورولا شامية، وعادل كرم.
أخرج العمل ناصر فقيه، في بداياته كان البرنامج مهضوماً، ولكنه وبسرعة أصبح مملاً وخطابياً يسير في دائرة سياسة المحطة إلى أن خفت وهجه، وقل متابعوه!
حينما كان «لا يمل» في قناة «المستقبل» أغرق بالطرح السياسي المعلب، وقدم وجهات نظر غير ما هو عليه اليوم في قناة مختلفة، حينها كرر نفسه ومواضيعه.
العلّة
رغم أن أعمالاً كهذه لم تعد تجد من يتابعها بشغف كما بداياتها من الجمهور اللبناني، والعلة تكمن بأن الزمر السياسية لا تزال على حالها، ولم تمت، ولم تكبر، وحافظت على أسلوب الفساد والتوريث والزعامات الخشبية، وأيضاً لا تزال المشاكل التي يعاني منها المجتمع اللبناني هي ذاتها منذ أكثر من 30 سنة، وبعد انتهاء الحرب اللبنانية، لا طبابة، ولا ماء، ولا كهرباء ولا تأمين صحي، والمدارس مصائب المصائب… وهذه المواضيع طرحت بتكرار في هذه البرامج الانتقادية الساخرة تصل إلى التمسخر والترهل التمثيلي، وقلة الأدب، وسبحت في الإيحاءات الجنسية، وبعضها أصبح روتينياً مملاً، وغالبيتها لا تستقرّ على نجومها، ويتبدلون بسرعة، فقط تتم المحافظة على اثنين أو ثلاثة منهم، بينما نجد أن برنامج «ما في متلو» صامداً، وبتميز على قناة «ام تي في».
بعد خروج فريق عمل «لا يمل» من قناة المستقبل إلى «ام تي في» تم تغيير اسم البرنامج إلى « ما في متلو»، وأضيف إلى فريقه الفنانة انجو ريحان، وتم تغيير المنهجية المتبعة سابقاً، والابتعاد عن الرسائل السياسية الشخصية، والدخول إلى تقديم اسكتشات اجتماعية كاريكاتيرية رشيقة ضاحكة.
لا يزال نعيم حلاوي الذي انطلق عام 1980 عبر تقديم البرامج في إذاعة «جبل لبنان» محافظاً على طبيعة أدائه وحركته الإيمائية، ولكن نجومية عادل وعباس أخذت تكبر، وتعدّد شخوصهما بإتقان ناعم فرض حضورهما الأكبر في البرنامج، ووجود رولا شامية زهرة البرنامج أضاف الكثير، وكذلك مشاركة أنجو.
باختصار فريق عمل «ما في متلو» هو الأنجح اليوم، ولا يوجد من ينافسه بطريقة تقديمه للانتقادات الاجتماعية العاقصة، والأكثر تجانساً وانسجاماً، وهذه السنوات الطويلة من العمل المشترك جعلت من المخرج ناصر فقيه أكثر تفهماً لفريقه، ويوصل مشهده ببساطة وببراعة إلى المشاهد، ويستحقّ على جلادة صبره واستمراريته جائزة لكونه فعلاً لم يَمل بعد!
القصد من هذا السرد الإشارة إلى أن برامج انتقادية ساخرة كهذه غير مكلفة انتاجياً انطلقت من التلفزيونات اللبنانية قبل أي قناة عربية، لا بل بعض العرب لا يجرؤ على تقديم مثلها حتى الآن، ومع ذلك لا بد من تغيير جلدها الساخر، أو الاستراحة الطويلة من أجل عودة جديدة لا تصيبها وتصيب العاملين فيها بالترهل والشيب السريع، وتكرار جمود الأداء والشخوص الكاريكاتيرية، خاصة بعد أن سُيّست وأغرقت بأمراض الواقع اللبناني، وبعضها أصبح طرفاً فغزاها الشيب والملل والتكرار والعنصرية.