قراءة سياسية في المشهد الاقتصادي اللبناني 2 المنظور التاريخي
زياد حافظ
وأخيراً تشكّلت الحكومة اللبنانية بعد مخاض استمرّ تسعة أشهر! والحكومة الجديدة مرآة النظام اللبناني حيث هي طائفية بامتياز مع تغيّيب متعمّد للقوى غير الطائفية التي تمثّلت في حكومات سابقة بشكل أو بآخر منذ أكثر من عقد من الزمن. والصبغة الطائفية قد تشكّل «قوّة» سياسية لولاية هذه الحكومة التي مفروض أن تستمرّ حتى انتخاب رئيس جديد للجمهورية عام 2022، إلاّ أنها العائق الأكبر الذي يحول دون إقامة إصلاحات اقتصادية وسياسية ولو بالحدّ الأدنى. وهدفنا في هذه الورقة مقاربة المشهد الاقتصادي ولكن من منظور سياسي تاريخي منذ تكوّن لبنان السياسي حتى الساعة لنجد أنّ المشاكل الاقتصادية التي تواجهها الحكومة مزمنة بل بنيوية بسبب تركيبة النظام السياسي والسياسات الاقتصادية المتبعة من عدة عقود.
في مقاربتنا السياسية للمشهد الاقتصادي في لبنان نقرّ بأنّ الواقع الاقتصادي سيّئ للغاية وقد يتحوّل إلى كارثة يصعب الخروج منها إنْ لم تُتخذ إجراءات جذرية في السياسة الاقتصادية وليس بتطبيق بعض المشاريع أو الإنفاق هنا وهناك لإسكات الناس. لكن هذا الواقع ليس بجديد فيعود إلى سياسات بدأت قبل مؤتمر الطائف وتفاقمت بعده وما زالت مستمرّة. فالجديد هو التهويل عبر الإضاءة من قبل بعض النخب على ثغرات ارتكبتها هي وتريد تحميلها لغيرها. غير أنّ لبنان ليس مفلساً، فلديه من الخيرات والقدرات قد تجعله في ريادة الدول في العالم إذا أحسن الخيارات واختار الكفاءات وليس الولاءات للزعماء والطوائف. لكن لبنان يُنهَب على عينك يا تاجر، من قبل نخب سياسية مرتبطة بجهات عربية ودولية تحميها، أو تعتقد أنها تحميها. كما أنّ القوى الوطنية الفعلية الحريصة على الحفاظ على السلم الأهلي، المهدّد بسبب التركيبة الطائفية المذهبية للنظام السياسي القائم، تغاضت عن الموضوع لعدم المساس بالسلم الأهلي، وقد تكون محّقة إلى حدّ ما!
لقد ساد في الفضاء الإعلامي في لبنان كلام كبير حول واقع الاقتصاد اللبناني. والكلام الصادر عن مسؤولين وغير مسؤولين وبين الناس يلوّح بالويل والثبور وعظائم الأمور حيث لبنان على شفير الهاوية وبالتالي لا بدّ من «إجراءات» لـ «وقف التدهور». والمقصود بالإجراءات التشريعات الضرورية لتنفيذ قرارات مؤتمر «سيدر» التي هي نسخة منقّحة عن قرارات «باريس 1 و2 و3 إلخ… والتي ساهمت في رأينا في ما وصل إليه الاقتصاد اللبناني اليوم. ويستند المهوّلون في تهويلهم على تقارير دولية أو من قبل مؤسسات دولية أو إعلام دولي للتأكيد على ضرورة الإسراع في تشكيل تلك الحكومة العتيدة وها هي قد تشكّلت وكأنها ستأتي بالحلول السحرية لواقع اقتصادي نتج عن حقبة ما قبل الحرب الأهلية وتفاقم خلال فترة بدأت بعد مؤتمر الطائف وما زالت قائمة حتى الآن، وكأنها قدر على لبنان واللبنانيين.
ومن ضمن قرارات مؤتمر «سيدر» طرح مسألة السياسة الدفاعية التي لا تعني إلاّ نزع السلاح عن المقاومة. فالتهويل بالكارثة الاقتصادية هو للضغط على المقاومة. فالأزمة الاقتصادية لا تحلّها قرارات مؤتمر «سيدر» بل إجراءات من نوع آخر تعيد النظر في السياسات الاقتصادية التي لا يمكن أن تتم إلاّ بتغيير في البنية السياسية والنظام السياسي القائم.
بالنسبة لنا، لا تنمية في ظلّ الدولة الطائفية المذهبية الريعية وثقافة الفساد الداعمة لذلك النظام حيث لا مساءلة ولا محاسبة لأيّ مسؤول دون التهديد بالسلم الأهلي! ولا تنمية إلاّ ضمن إطار تكاملي مع الدول العربية بشكل عام ومع سورية والعراق والأردن وفي ما بعد مع فلسطين بعد التحرير بشكل خاص. وما يزيد الطين بلّة هو الانكشاف تجاه الخارج وتماهي الطبقة الحاكمة مع إملاءات قوى دولية وعربية تابعة للولايات المتحدة تجلّت مع مقاطعة ملوك وأمراء ورؤساء عرب للقمّة التنموية الاقتصادية بناء على «إيحاءات» أميركية والتي تزامنت مع وصول الموفد الأميركي دافيد هيل إلى بيروت قبل القمة الاقتصادية التنموية، وفي السكوت عن تهديداته والامتناع عن دعوة سورية للقمة وكأنّ هناك إمكانية لتنمية في لبنان بعيداً عن سورية. ولكن هذا حديث آخر نتناوله في مقاربة منفصلة.
قراءتنا للواقع الاقتصادي اللبناني ليست جديدة وكنّا قد كتبنا عنها خلال العقود الثلاثة الماضية. المشكلة الاقتصادية في لبنان هي مشكلة سياسة اقتصادية التي هي بدورها مشكلة سياسية. يقول فون كلوسيفتز المنظّر الألماني للحروب أنّ الحرب هي السياسة ولكن بوسائل مختلفة. نقول نحن إنّ الاقتصاد ليس إلاّ السياسة ولكن بلغة الأرقام. فما لا يمكن تمريره بالخطاب السياسي من قرارات لها تداعيات على بنية الاقتصاد والمجتمع يمكن تمريره بخطاب «علمي» لا «غبار» عليه. فهذه هي وظيفة النظرية الاقتصادية عبر التاريخ التي ولدت من رحم التحوّلات السياسية في أوروبا وفي ما بعد في الولايات المتحدة منذ ثلاثة قرون. فالاقتصاديون الكلاسيكيون مثل آدام سميت ودافيد ريكاردو مروراً بجون مينارد كينز في الثلاثينات من القرن الماضي وصولاً إلى ميلتون فريدمان وأمثاله في التسعينات والألفية الثالثة كانوا منظّرين لسياسات تخدم النخب الحاكمة أو النظام القائم. ليس هدفنا هنا شرح تلك التفاصيل بل الإشارة إلى أنّ الاقتصاد كان وما زال في خدمة السياسة أولاً وأخيراً وإنْ لم تغب الأبعاد الاقتصادية التقنية عن القرارات السياسية. فالعلاقة شبيهة بين أولوية البيضة أو الدجاجة وإن أصبحت العلاقة دورية بين البيضة والدجاجة وكلاهما يغذّيان بعضهما ببعض.
في لبنان، الأزمة الاقتصادية الحرجة مزمنة وليست وليدة الساعة أو الظرف الإقليمي، بل يعود إلى الأزمة الكيانية التي واكبت خلق الكيان منذ 1920 ودوره الوظيفي عبر قرن من الزمن. ومنذ الاستقلال حتى مؤتمر الطائف كان النظام السياسي قائماً على تحالف البيوت السياسية الطائفية المذهبية. فهذا التحالف أفضى إلى تبنّي الدولة الضعيفة للغاية هدفها خدمة مصالح القيّمين على نظام سياسي لا يكترث لمصالح الشعب ولحماية الوطن من التجاذبات والاعتداءات. فعقيدة «قوّة لبنان بضعفه» أسّست للدولة الضعيفة. تجلّى ذلك الضعف على الصعيد الاقتصادي عبر منع الدولة من قيام بأيّ دور اقتصادي غير «تسهيل» الليبرالية المطلقة. فالقطاع الخاص كان يقود النشاط الاقتصادي والقطاع العام دوره كان فقط تأمين بعض البنى التحتية والخدمات التي لم يكن القطاع الخاص يريد بناءها أو استثمارها. أضف إلى ذلك أنّ عدم التوازن السياسي بين الطوائف والمذاهب أدّى إلى تفاقم الفجوات الاقتصادية الاجتماعية وإهمال المناطق وخاصة الجنوب وكأنه على قارة مختلفة. فلا عجب أنّ غياب الدولة وعدم اكتراث القطاع الخاص المتماهي مع الطبقة الحاكمة أدّى إلى استنهاض قوى شعبية في الجنوب أخذت على عاتقها الدفاع عن نفسها وعن لبنان والتنمية للمنطقة الجنوبية عبر تأهيل الاستثمار للمال المغترب في نهضة الجنوب. وإهمال الجنوب واكبه إهمال الشمال والبقاع حتى الساعة إلى أن تقوم قوى شعبية تغيّر في المعادلات القائمة.
كما لا يجب أن ننسى أنّ النظام الطائفي المذهبي كان أيضاً عنصرياً ومازال؟! تجاه مواطنيه أولاً كما يتجلّى بالفوارق الاقتصادية الاجتماعية بين الطوائف والمذاهب، والعرب ثانياً بشكل عام وبشكل خاص تجاه الفلسطينيين واليوم تجاه السوريين سواء في ملفّ النازحين أو في العلاقات الاقتصادية مع سورية. فلا يمكن أن ننسى على سبيل المثال كيف تصرّفت النخب السياسية الحاكمة تجاه بنك انترا عام 1966 الذي حقّق نمواً في الأداء المصرفي وكوّن محفظة استثمار فريدة من نوعها لم تنافسه عليها أيّ من المؤسّسات المالية اللبنانية «العريقة» آنذاك. فكان القرار القضاء على «الفلسطيني»، أيّ يوسف بيدس، الذي تخطّى حجمه حجم الفعاليات الاقتصادية آنذاك والذي تحكّم بالاقتصاد اللبناني.
قراءتنا لتفليس بنك انترا تشير إلى أنّ النخب الحاكمة في لبنان ومن يحميها لا تريد ولا تتحمّل وجود شخصيات وأو مؤسسات وطنية عابرة للطوائف والمذاهب التي يكسر سلوكها التوازن الدقيق بين القوى الطائفية والمذهبية. فالشخصية التي يصبح حجمها كاسراً لذلك التوازن يتمّ تصفيتها، وتصفية بنك انترا في رأينا تأتي في ذلك السياق. فهناك تلازم بين السياسة والاقتصاد، فمن يكسر «التوازن» الاقتصادي كالذي يكسر «التوازن» السياسي.
منذ الاستقلال وحتى مؤتمر الطائف، ومروراً بالحرب الأهلية، اتسم الاقتصاد اللبناني بالتركيز على قطاع الخدمات بشكل عام وعلى التدفّقات المالية غير المرئية لسدّ العجز في ميزان حسابه الجاري في ميزان المدفوعات. فلبنان كان وما زال يستورد معظم حاجياته الغذائية والصناعية ولا ينتج إلاّ القليل منها. فقطاع الزراعة والصناعة لم يتجاوز 15 بالمائة لكلّ واحد منهما من الناتج الداخلي. لكن كانت هناك محاولة للوصول إلى حدّ ما من التوازن بين القطاعات بعد توصيات بعثة «ارفد» عام 1958. وكان هناك أيضاً حدّ أدنى من التخطيط خلال حقبة الرئيس فؤاد شهاب حتى اندلاع الحرب الأهلية. لم تكن الأمور مثالية ولكن كانت هناك بعض الخطوات لسدّ الفجوات بين القطاعات وبين المناطق حاول الرئيس فؤاد شهاب إطلاقها وذلك رغم معارضة البيوت السياسية التي كانت ترى أنّ «التخطيط يتماهى مع الاشتراكية» وضدّ قانون السوق ويشكل اعتداء على إقطاعها. نجحت في ثورتها المضادة بعد حرب 1967 عندما اعتبرت أنّ الغطاء العربي للنهج الذي كان يمثّله الرئيس جمال عبد الناصر قد ضعف فكان الانقلاب عبر تحالف طائفي مذهبي صرف الحلف الثلاثي واكبه تحالف ادّعى الوسطية بين النهج الشهابي والطائفية المفرطة.
أما الاقتصاد اللبناني فكان منكشفاً تجاه الخارج سواء على صعيد التجارة الخارجية، أو على صعيد التوسيط المالي، أو على صعيد السياحة. وبالتالي اتبعت النخب الحاكمة سياسات عدم التغيير في هيكلية البنى التحتية للاقتصاد والتركيز على الطابع الريعي الذي تجلّى في الاتّكال على ما يرسله اللبنانيون في المهجر، وعلى الوكالات الحصرية للسلع المستوردة ما جعل الطابع الاحتكاري المسيطر على التجارة الداخلية وعدم دعم القطاع الصناعي المنتج للسلع البديلة عن تلك المستوردة. فهناك أسطورة الاقتصاد الحرّ في لبنان في ظلّ الاحتكارات «الشرعية» وغير الشرعية أيّ المافيات التي تتحكّم باستيراد وتوزيع السلع الحياتية كالمازوت والغاز على سبيل المثال. يوجد في لبنان احتكارات مشرّعة كالوكالات الحصرية واحتكارات الأمر الواقع التي تحظى بحمايات النخب السياسية وتسيطر على العديد من المرافق العامة وحتّى الخاصة كالطاقة ناهيك عن السلع الاستراتيجية كالمازوت والغاز والدواء على سبيل المثال. وفي ما يتعلّق بملفّات شديدة الحساسية كملفّ الدواء فنشير إلى مطالعات الصديق الدكتور اسماعيل سكّرية التي تناولت مافيات الدواء وفضحت التغطية السياسية للمحتكرين. وكان قد سبقه في مطلع السبعينات الوزير إميل بيطار غير أنّ النخب السياسية لم تسانده في مكافحة احتكار الدواء. كما نشير إلى جهود الوزير نقولا تويني في نفس المجال رغم ضعف الإمكانيات المتوفرة لدى وزارة مكافحة الفساد. لكن هناك ايضاً عوائق عديدة تحدّ من حرية النشاط الاقتصادي فكلّ شيء يحتاج إلى «ترخيص» والترخيص يخضع لرسوم شرعية وغير شرعية كالتي تعمّ نشاطات المرافق، وكلّ ذلك يدرّ ريعاً على المتنفذّين.
فالتحكّم بالأسعار أوجد ريعاً دون أن يوجد قيمة مضافة في القطاع التجاري الداخلي. والريع بالمفهوم الاقتصادي هو الدخل الذي يرد لعامل إنتاج دون أيّ مجهود منه يذكر ولا يقدّم أيّ قيمة مضافة. فالتحكّم بسلعة أو خدمة يخلق ريعاً يفوق الدخل الطبيعي الناتج عن التنافس. فطبيعة المنافسة في لبنان كانت وما زالت احتكارية الطابع، أيّ تنافساً بين قطاعات احتكارية وعلى حساب المواطن المستهلك. أما التنافس خارج إطار الوكالات الحصرية فكان معدوماً أو شبه معدوم.
تلك الطبقة السياسية كانت، بسبب عدم التوازن السياسي بين الطوائف والمذاهب، مناهضة لدور الدولة في تقديم الخدمات الاجتماعية. نستذكر هنا معارك الجامعة اللبنانية في أواخر الأربعينات والخمسينات والستينات لإقامة معظم كلّياتها وذلك ضدّ رغبات المؤسسات الإرسالية التي كانت متحكّمة بالطبقة السياسية والتي كانت ترفض إقامة الجامعة اللبنانية. كما نستذكر معركة إقامة جامعة بيروت العربية لفرض نوع من التوازن مع الجامعات الخاصة في لبنان التابعة لإرساليات أجنبية والتي كانت حكراً على فئة معيّنة من اللبنانيين مع استثناءات بسيطة لم تغيّر في المعادلة العامة. فالنظام الطائفي له امتدادات على الصعيد التربية والتعليم وعلى التقديمات الاجتماعية. واليوم، نرى أنّ عدم تحديث صندوق الضمان الاجتماعي يعود إلى خشية كشف «عدم توازن» في البنية السكّانية في لبنان بين الطوائف والمناطق! فالاستشفاء في لبنان شبه حكر على القطاع الخاص حيث حافز الربح يتفوّق على خدمة الاستشفاء. كما أنّ لكلّ طائفة ومذهب مؤسّساته الاستشفائية لسدّ الثغرة التي أقامها غياب الدولة بقرار من القيّمين عليها! فمراكز الاستشفاء عشوائية وتُقام دون تخطيط يذكر ومركّزة في المدن على حساب المناطق ومكلفة للغاية فوق طاقة المواطن اللبناني وخاصة من الطبقة الوسطى والفقيرة.
مع حقبة الطائف ألغيت وزارة التخطيط واستبدل مجلس الإعمار بها. كما أنّ سياسات الدولة المتبعة منذ 1993 حتى الساعة ساهمت في تحويل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد ريعي بامتياز كما اوضحته الأرقام التي وردت في تقرير ماكينزي عام 2018. يظهر التقرير أنّ لبنان يشكو من دائرة مفرغة حيث النمو خلال الأربعين السنة الماضية لم يتجاوز 30 بالمائة لكلّ لبناني بينما المتوسّط العالمي كان 120 بالمائة. والضعف في النمو واكبته تقلّبات في موجة التدفّق المالي من قبل المغتربين. والتدفّق المالي تمّ توظيفه في القطاعات غير المنتجة كالاستهلاك والعقار وخدمة الدين الذي تطلّب المزيد الاستدانة. والاستدانة المتجدّدة لم توظّف في استثمارات في البنية التحتية كهرباء، مواصلات، تواصل، شبكات طرق، إلخ ما أدّى إلى ضعف في إنتاجية الاقتصادية فضعف في النمو فاكتملت الدائرة المغلقة. قرار الاستدانة بحدّ ذاته ليس سلبياً بل ما هو سلبي هو الغرض منه أيّ تحويل ثروات اللبنانيين إلى زمرة متموّلة تقاسمت بين النخب الحاكمة ومن يدور في فلكها.
غير أنّ الحلقة المفرغة التي يتكلّم عنها تقرير ماكينزي ناتج عن حلقة مفرغة سياسية. فلبنان يعاني من أزمة مزدوجة: فمن جهة هناك خلل نظامي سياسي طغى على بنيته الاقتصادية كما أنّ الأزمة البنيوية الاقتصادية أدّت بدورها إلى المزيد من الخلل في النظام السياسي القائم. الحلقة المفرغة تتحكم بدينامية الأمور مما يجعل الكلام التقليدي عن الإصلاح الاقتصادي دون جدوى أو قابلية للتنفيذ إنْ لم يكن هناك إصلاح في النظام السياسي.
لم يشر تقرير ماكينزي إلى سنوات الحرب وخاصة الثمانينات التي شهدت تدهوراً في التوازنات المالية الداخلية. أما خلال السنوات السبع الماضية فإنّ إجمالي النمو كان فقط 8 بالمائة بينما في العالم كان حوالي 14 بالمائة. لم يذكر التقرير تداعيات الأزمة في المنطقة بشكل عام وفي سورية بشكل خاص. لكن التقرير يلحظ أنّ بين فترة وأخرى كان معدّل التدفّق المالي إلى لبنان مرتفعاً كما كان بين 2005 و2010 حيث وصل تراكم التدفّق إلى 40 بالمائة بينما كان فقط 3 بالمائة لفترة بين 2010 و2015. والتدفّق المالي يعود إلى ما يرسله اللبنانيون في المهجر فيعمّق بذلك الطبيعة الريعية للاقتصاد اللبناني. هذه التدفقات المالية توزّعت بين الاستهلاك وبين التوظيف العقاري، أيّ في قطاعات غير منتجة ولم تقدّم قيمة مضافة. والقسم الأخير من ذلك التدفّق ذهب إلى تمويل الدين العام الذي تحوّل من دين لإعادة إعمار لبنان كما تزعم تلك النخب إلى دين وظيفته تسديد الدين العام! فـ «عبقرية» المهندسين الماليين اعتمدت الاقتراض لفترات قصيرة جدّاً الشهر مثلاً في البداية لكن طال عمر الديون إلى ما بين 3 و5 سنوات مؤخراً إلى أكثر من ذلك بالنسبة للديون في الدولار! وبفوائد مرتفعة أكثر من ربوية، أيّ ما بين 15 و25 بالمائة ووصلت إلى 40 بالمائة في مرحلة ما، وذلك لتمويل مشاريع طويلة الأجل في التنفيذ وفي المردود، وذلك خلافاً لأبسط قواعد التوازن والمنطق المالي والاقتصادي! أما الذريعة التي رُوّجت لتبرير الفوائد المرتفعة فكانت لـ «جلب الرساميل» ولـ «تثبيت» سعر الصرف! فتلك الرساميل لم توظّف في القطاعات الإنتاجية بل في سندات الخزينة والعقار، أيّ دون إنتاج قيمة مضافة بل تحويل مدّخرات اللبنانيين إلى حاملي تلك السندات وإلى أصحاب العقارات. أما اليوم فوصل الدين المباشر إلى أكثر من 75 مليار دولار وإذا أضفنا العجز المتراكم لمصلحة كهرباء لبنان والضمان الاجتماعي يصل مستوى الدين إلى أكثر من 100 مليار دولار. أما خدمة الدين السنوية فهي 33 بالمائة من إجمالي نفقات الدولة وذلك لتسديد فقط الفوائد المترتبة وتوازي تقريباً 50 بالمائة من واردات الدولة. قيمة مصاريف الدولة لعام 2016 كانت 14،9 مليار دولار بينما الواردات كانت 9،9 مليار دولار وبالتالي العجز لتلك السنة حوالي 5 مليار دولار. بالمناسبة، فإنّ واردات الدولة مكوّنة من الضرائب بنسبة 71 بالمائة معظمها من الضرائب غير المباشرة، أيّ الضريبة على القيمة المضافة التي تدفعها الطبقات الفقيرة والمتوسّطة دون تحديد نسبتها في تقرير ماكينزي.
نسبة الدين العام للناتج الداخلي وصلت إلى 145 بالمائة وهي ثالث أعلى نسبة في العالم بعد اليابان 236 بالمائة واليونان 183 بالمائة . حجم الدين بحدّ ذاته ليس مشكلة بل طبيعة الدين هي المشكلة. فالدين الذي يموّل البنى التحتية والمشاريع الإنمائية يعوّض نفسه في المدى الطويل بينما الدين الذي يموّل الدين كما هي الحال في لبنان لا ينتج ولا يعوّض عن نفسه. الدين العام في لبنان هو عملية تحويل الثروة من المواطنين عبر الضرائب التي تموّل وتخدم ذلك الدين إلى صاحبي سندات الخزينة أيّ المصارف ومودعيها والمصرف المركزي! كيف يحمل مصرف لبنان سندات الخزينة التي يُصدرها ومن أيّ مصدر يموّلها؟
إنّ «عبقرية» المسؤولين في مصرف لبنان أدّت إلى أن يحمل مصرف لبنان في محفظته حوالي 30 بالمائة من سندات الخزينة خلافاً للقانون أولاً وخلافاً لأيّ منطق اقتصادي أو مالي ثانياً. فهذه المحفظة جزء من الأصول التي «يملكها» مصرف لبنان لكنّها في الحقيقة دين على الدولة. فإذا اعتبرنا أن مصرف لبنان ليس من مؤسسات الدولة لكان الأمر مقبولا من الناحية القانونية. لكن بما أنّ مصرف لبنان من مؤسسات الدولة فتصبح ملكيته لتلك السندات من أصول الدولة، وبالتالي تصبح الأصول من المطلوبات أو الديون على الدولة نفسها! كيف يستقيم ذلك؟ هذا يعنى، انه في غياب غطاء قانوني مقنع لا غبار عليه فإنّ ميزانية مصرف لبنان تشكو من «ثغرة» قيمتها 30 بالمائة من الدين العام أو حوالي 22 مليار دولار إذا ما اعتبرنا قيمة الدين العام خارج عجز مصلحة كهرباء لبنان والضمان الاجتماعي يوازي 75 مليار دولار. لكن بغضّ النظر عن القيمة فإنّ جوهر الموضوع هو تغاضي جميع قوى النخب الحاكمة عن تلك المخالفة القانونية والمالية في مصرف لبنان بل اعتبارها «عبقرية الهندسة المالية»! لكن كاهل الدين العام ثقيل لأنه يستنزف موارد الدولة التي لا توظّف إلاّ 6 بالمائة منها على استثمارات منتجة أو في البنية التحتية. أيّ بمعنى آخر إمكانية الدولة في تنمية البلد محدودة حيث لا يمكن أن تصرف في الظرف الحالي إلاّ 6 بالمائة من مداخيلها. لا نخفي رأينا أنّ هذا الأمر مقصود حيث من «ثوابت» النظام تغييب دور الدولة في البنية الاقتصادية ناهيك عن كلّ ما يهمّ اللبنانيين!
ما يخفّف من وطأة الدين العام على الاقتصاد اللبناني هو أن ملكيته بأيدي لبنانية أو محلّية بنسبة 84 بالمائة. أيّ أنّ الانكشاف تجاه الخارج محدود نسبياً، وهذا ما يساهم في الحفاظ على ثبات سعر الصرف لليرة اللبنانية. لكن هذا يعني أنّ الدولة «مفلسة» بكلّ المقاييس وهذا يشكّل خطراً على الواقع الاقتصادي حيث النظام المصرفي هو المموّل الأوّل للدولة والدولة هي أهمّ مصادر أرباحه. فإذا أفلست الدولة رسمياً أيّ عجزت عن تسديد خدمة الدين فإنّ الواقع المصرفي سيكون في وضع حرج لغاية الإفلاس أيضاً. فالعلاقة العضوية بين القطاع المصرفي والدولة علاقة تفيد بأنّ الاثنين يغرقان سوياً أو ينجيان سوياً. وما ساهم في استمرار ذلك الوضع تغاضي النخب الحاكمة عن الأمر بل حتى أنها هي التي أوجدته وشجّعته.
أما الكلام عن تخفيض التقييم الائتماني للدولة وللمصارف اللبنانية من قبل مؤسسات دولية من درجة «ب» إلى درجة «سي» فهو أمر فيه التباس. هو يدلّ فقط على الوضع المالي للدولة وليس النقدي حيث السيولة في المصارف متوفّرة أكثر من 180 مليار دولار من الودائع إضافة إلى الاحتياط لدى مصرف لبنان ومقارنة مع ناتج داخلي بحدود 65 مليار دولار . فلا خوف في الوقت الراهن وحتى المستقبل القريب على الليرة اللبنانية. التهديد بخروج الرساميل من لبنان أو تراجع الودائع وخروجها إلى الخارج أمر مبالغ به ويشكّل مخاطر عليها وليس أيّ ضمانة. فالتشريعات الغربية بحق الأموال العربية بشكل عام تخضع لمزاج الحكومات التي تستعملها كوسيلة ضغط على الحكومات العربية للالتزام بسياسات تقبلها الحكومات الغربية. إذن، ليس هناك من حماية لتلك الرساميل في الغرب. أما المردود على تلك الودائع في الخارج فلن يصل إلى المردود الحالي في النظام المصرفي في لبنان. كما أنّ مديونية لبنان تجاه الخارج محدودة فلا خوف إذن على سعر الصرف لليرة اللبنانية. بل نستطيع أن نقول إنّ سعر الصرف الليرة تجاه الدولار منخفض ولا يعكس الوضع النقدي. نعتقد أنّ سعر الصرف الليرة يجب أن يكون أقلّ من 1507 بل ربما بمستوى 300 ليرة للدولار! لكن هذا نقاش آخر لا مجال للتبحّر به في هذه المقاربة.
كاتب وباحث اقتصادي وأمين عام سابق للمؤتمر القومي العربي