هل تصمد جماعة العدل والإحسان أمام مفاعيل الزمن؟
عبد الفتاح نعوم ـ المغرب
كثيراً ما يجد صناع القرار داخل الجماعة أنفسهم في حرج كبير، خصوصاً حينما يتعلق الأمر بالتناقض مع أنفسهم أثناء اتخاذ مواقف معينة. وهذه التناقضات تكمن خطورتها على الجماعة في كونها تمثل مدخلاً لزرع بذور الانشقاقات داخل الجماعة مستقبلاً.
بالطبع تصرّ الجماعة من خلال ما يروّج داخلها على أنها عصية على الانشقاق، وأنّ هذا النقاش هو إما جهل من خصومها بها، وإما رغباتهم وأحلامهم. قد يكون ذلك صحيحاً، لكن من يتأمّل كيف انشقت الجماعة الأولى التي أسّسها النبي الكريم إلى ملل ونحل متصارعة سوف لن يستبعد دخول جماعة أسّسها شخص عادي جداً في أتون الانشقاقات، فقط حينما تتوفر الشروط الموضوعية لتلك الانشقاقات سوف لن تكون الجماعة بمنأى عنها.
التضامن الآلي داخل الجماعة
يعطي كلّ عضو في جماعة العدل والإحسان مكانة جوهرية لمسألة «الصحبة»، وذلك باعتبارها علاقة «مريد» بـ«شيخ»، بحيث ينقل هذا الأخير «معرفته الربانية» التي اكتسبها من شيخ آخر وهكذا دواليك في سلسلة طويلة تبدأ حسب منظور الجماعة بالرسول الكريم وتنتهي بأصغر عضو في الجماعة، ومضمون تلك الصحبة يتركز في «التربية الإحسانية» التي تفضي بدورها إلى تهيئة العضو ليقوم بمهام التنظيم ثم الزحف صوب إقامة العدل. ربما هذه الطريقة المثلى لتلخيص رؤية الجماعة للخلاص الفردي والجماعي، لكن ذلك لا يكفي لفهم آليات الجماعة التنظيمية في بعدها السوسيولوجي، وهي ربما التي تبيّن مكامن وثغرات الضعف في الجماعة، والتي عاجلاً أو آجلاً ستمسّ أطراف الجماعة ومراكزها.
يعتبر إميل دوركهايم التضامن الآلي هو النمط الذي تنبني عليه العلاقات بين الأفراد داخل المجتمعات التقليدية، وذلك باعتبار الشبه بين الأفراد، حيث معيار كلّ فرد داخله يكون درجة القرابة. وبهذا المعنى فالعلاقات بين الأفراد داخل الجماعة هي علاقات تضامن آلي، بحيث يقوم كلّ فرد بإسقاط مقولة الصحبة في ميدان الأخلاق/التربية على مجمل العلاقات الاجتماعية الأخرى، فيصير المجتمع بمعناه الواسع مدى حيوياً له، لكن تصبح معظم تفضيلاته العلائقية الاجتماعية الأساسية معروضة بداية على تلك المنطلقات الصحبوية، فيتجه إلى إشباع تلك التفضيلات خارج «مجتمع» الجماعة فقط في حالة العوز الاجتماعي للجماعة، ولذلك تصبح روابط من قبيل الزواج والبيع والشراء وحتى السكن الجامعي وغيرها من الروابط، تصبح تكريساً للمعاني التي يتلقاها الفرد داخل الجماعة، والتي تحوم كلها حول الصحبة والتربية.
ومن تلك التجليات أيضاً أنّ الفرد في جماعة العدل والإحسان لا يتحرّج حينما يكتفي بتكوين معرفته الدينية والفلسفية والسياسية وكذلك الاطلاع على مجريات الأحداث في السياسة من خلال موقع الجماعة على الانترنت ومن خلال كتب مرشد الجماعة السابق، وهو بذلك يعفي نفسه من مشقة البحث عن تلك المعارف في مضانها! وربما الأولوية لمعاني التربية والصحبة تجعل ذلك الفرد يشعر بنوع من الرضى حينما يجري استقطابه من طرف رجل تعليم منتسب إلى الجماعة ليجري نقله من مستوى مجالس التهييء إلى مجالس التنظيم التربوية، وبعدما يكون المسؤول عن «تربيته» رجل تعليم قد يصبح المسؤول عنه «نقيب أسرة» أمي جاهل في القراءة والكتابة.
وتعتبر الجامعة ذلك التنوّع السوسيو ـ مهني والتنوّع في مستويات التعليم والمعرفة الدينية والسياسية داخل الجماعة من مصادر قوتها، بل ربما تعتبر نفسهما معملاً لصهر كلّ تلك التشكيلات الاجتماعية، والقيام بإنتاج مجتمع مواز للمجتمع الكبير، بحيث يفارقه في اكتسابه لخصوصيتي «الصحبة» و«التربية» واللتين ستفضيان حتماً إلى «التنظيم» ومن ثم «الزحف» لإقامة «العدل».
إنّ التضامن الآلي ذاك يجعل الفرد غير واع تمام الوعي بوظيفته داخل جماعة اجتماعية ما، وبالتالي يتوقع منه أن يُثار بما يتناسب مع تكوينه النفسي/الاجتماعي، وفي حالة المجموعات الدينية والدينية السياسية منها تحديدا فإن قابلية الفرد لأن يُثار تبعاً لمواقف بعينها تصبح واردة جداً، خصوصاً أنّ الولاءات داخل التنظيمات من ذلك النوع تكون مشخصنة إلى حدّ بعيد، وفي حالة العدل والإحسان قد يشكل غياب المرشد المؤسّس بما له من ألق خاص فرصة لتشظي ذلك الوهج تدريجياً مع مرور الزمن، وتوزّعه على شخصيات أخرى ذات أفكار أخرى، مما يسهّل عملية تكوين تيارات جديدة داخل الجماعة ومن ثم تطورها إلى أجسام غير قادرة على التعايش مع الجماعة الأم، أليس هذا ما حصل لجماعة المسلمين الأولى عقب وفاة النبي؟ فكيف الأمر بجماعة أسّسها إنسان عادي جداً، وفي عصر يجعلها جماعة مفتوحة على مختلف التأثيرات؟
بذور الانشقاق داخل الجماعة
لكي تتحوّل تلك العوامل الأصلية/السوسيولوجية داخل الجماعة إلى بذور تعصف بالهيكل التنظيمي والفكري لها، لا تحتاج إلى أكثر من حوافز يأتي بها الزمن تباعاً، وتفعل التراكمات الكمية فعلتها، صحيح أنّ الجماعة تتوفر على مرونة عالية تمكنها من تفادي التعثرات، لكن ذلك لن يمنعها من الوقوع في مواقف حرجة في المستقبل. وذلك راجع إلى الحرج النظري الذي تضع الجماعة نفسها فيه من حين إلى آخر، وما يترتب عليه من مصادمات تترك آثاراً عميقة في نفسية الأفراد، وتنتقل منهم بدورهم إلى من يلتحقون بعدهم، على غرار أسلوب التداول الجيلي للثقافة الذي يطبع أسلوب البشرية في نقل شفرات النوع إلى الأجيال اللاحقة.
منذ سنوات مضت لم تكن كلّ علاقة الجماعة بالفن تتمثل سوى في توفرها على مجموعات للإنشاد الديني، ومن أهمّها مجموعة المنشد الموهوب رشيد غلام، والذي تحوّل في سنوات قليلة إلى مطرب يقيم حفلات في كبريات مسارح العالم، ويغني بمصاحبة موسيقية ويؤدّي مختلف أنواع الغناء ضارباً بعرض الحائط كلّ الصخب الدائر بين الجماعات الإسلامية بخصوص مقتضى الشرع حول «الغناء». وفوق هذا ووسط المعلومات المتضاربة حول الوضع التنظيمي للمغني المذكور داخل الجماعة، فهو لا يزال يُصرِّف المواقف السياسية للجماعة، وقد قام بزيارة إلى بعض المناطق السورية، ووضع صوراً لتلك الزيارات على صفحته الخاصة على «فيسبوك»، مما يطرح علامة استفهام حول طبيعة الدعم الذي قدَّمه مطرب محسوب ولو فكرياً على جماعة العدل والإحسان للجماعات المقاتلة في سورية، والتي يصعب الحديث بصددها عن معارضة مسلحة معتدلة!
فهذا الصمت من طرف الجماعة عن هذا التحوّل من الإنشاد إلى الغناء الذي ينسحب على كلّ مجموعات الإنشاد، قد يسبّب فتوراً في قناعات الكثير من منتسبي الجماعة القاضية بأنهم ينتمون إلى «جماعة إسلامية»، ومهما تمكنت الجماعة من تبرير ذلك فلنا أن نتصوّر إذا اقتضى الصراع بين الدولة والجماعة أن تعيد الكرة وتفسح المجال للسلفية الوهابية لتصبّ حادّ نقدها على الجماعة، وقد عانت الجماعة في السابق كثيراً من ذلك النقد حينما كانت تتبنى الإنشاد، فكيف بها إذا أصبح الأمر متعلقاً بالغناء؟ وبغض النظر عن ذلك فإنّ تبني الفن بمعناه الليبرالي مع تبريراته المختلفة سيُكسب العديد من الأعضاء خصوصاً المتعلّمون منهم إطاراً حياتياً ليبرالياً تمَّحي تدريجياً معه الحاجة إلى أطر دينية من قبيل الصحبة والتربية وغيرها، مما ينذر بمراحل جنينية لتشكل تياراً ليبرالياً داخل الجماعة، وإنْ كانت الجماعة لا ترى في التوفر على مطرب مشهور سوى بوق تتغاضى عن مخالفاته للأدبيات الدينية للجماعة علّها تحتاج إلى شهرته لتصريف مواقفها في فترة ما، كما هو الشأن بالنسبة للدور الذي أداه اللاعب أبو تريكة لـ«الإخوان المسلمين» في مصر.
وتجد الجماعة حرجاً من تحوّلاتها في مواقف أخرى، فمن الدعم القوي للثورة الإسلامية الإيرانية في كتابات المرشد السابق للجماعة، تحوّلت الجماعة إلى مناصرة «الإخوان المسلمين» حينما تحالفوا مع المحور الإقليمي والدولي الذي رصد كلّ إمكانياته الايديولوجية والسياسية والعسكرية لكسر الحلف الإيراني ـ السوري ـ اللبناني ـ الدولي، وهو تحوّل لم تبرّره الجماعة نظرياً كأن تقول بأنّ الثورة الإسلامية الإيرانية التي دعمها المرشد السابق انحرفت عن مسارها مثلاً، لكن الجماعة انخرطت فقط في ذلك الحلف بشكل ميكانيكي نظراً لأنها أرادت تفادي حالة الاستقطاب المذهبي الموجود في المنطقة، لأنها لو انسجمت مع أدبياتها ودعمت إيران وحلفها لوجدت نفسها في مرمى نيران كلّ من يصوب على الشيعة قاصداً من وراء ذلك كسر حلف إيران الإقليمي والدولي.
ومع دخول الجماعة إلى حركة 20 شباط ثم خروجها منها أبانت عن شرخ آخر في بنيانها السياسي، وعدم انسجام في المواقف مع أدبياتها النظرية. فالجماعة أثبتت الانسجام في شيء واحد بهذا الخصوص، يتعلق الأمر بأنها لا تؤمن بقيم الديمقراطية، والتي منها اتخاذ القرارات من أسفل إلى أعلى، فالجماعة تؤمن على العكس من ذلك بمبدأ الطاعة، بحيث على الأفراد أن ينفذوا من دون نقاش القرارات المتخذة في قمة التنظيم. وبخصوص الشورى فهي لا تعدّ في الجماعة أكثر من مبدأ «استشارة أخيك في أمر قد حسمت أمرك فيه» بما يعني فقدانها لطابع الإلزام، وإحلالها في نطاق ضيّق في قمة التنظيم. وعليه فقد فوجئ الجميع بالجماعة تتخذ قرار الخروج من حركة 20 شباط التي أعلنت منذ البداية أنها دخلت فيها كأفراد وليس كجماعة، فانسحب الأفراد من الحركة حينما قرّرت الجماعة ذلك، من دون نقاش في المسألة لا داخل مكوّنات الحركة، ولا داخل الجماعة نفسها، وهو المنطق الذي لا تسيَّر به في العادة إلا الجيوش أثناء المعارك.
ولا تخلو الجماعة كأيّ تنظيم من بوادر نشوء زعامات تسعى إلى فرض رؤاها وخياراتها، وغالباً ما يقمعها الاتجاه السائد في الجماعة، ويعمد إلى تأليب الأعضاء عليها. زيادة على أن الجماعة تنتهج التقية كغيرها من جماعات الإسلام السياسي، وذلك لكونها تخفي برامجها الاجتماعية وخلفياتها الايديولوجية حتى عن أعضائها، فالسواد الأعظم من أعضاء الجماعة بمن فيهم الطلبة والموظفون ناهيك عن الأميين، لا يعرفون عن تلك البرامج إلا سماعاً، ولذلك حالما يَحدث تحوّل نوعي في الجماعة كأن تجد لها مكاناً يُرضي شروطها في السلطة، ستملؤها الانتهازية فلا يمكنها أن تمنع الأعضاء الملتحقين عن الانتساب إلى حزبها الذي يفترض فيه الأساس الوطني، زيادة على أنّ أعضاءها القدامى وجمهورها سيكتشفون عملياً من القيادات ما كان مخفياً عنهم عبر السماع، وستنمو التيارات المختلفة داخل الجماعة.
إنّ جماعة العدل والإحسان كغيرها من التنظيمات تتعرّض للاهتزازات أمام كلّ شيء وهي تعطي كلّ التفاصيل أهمية قصوى، إلى درجة أنها تجعل أحياناً التنظيم يناقشها داخل مجالسه المختلفة. كما أنها ليست بالصرامة التربوية/التنظيمية التي تحاول إظهارها في الاستعراضات/المسيرات، بحيث أنها من داخلها لا تتورّع عن الشكوى من أعضائها بخصوص التهاون التنظيمي، والفتور في أداء الطقوس والمناسك التعبدية، من قبيل قيام الليل وأوراد «الذكر»، بحيث هناك تفاوتات بين أفراد الجماعة في الالتزام بأدبياتها، وذلك مما يؤكد لا استثنائية الجماعة بشكل أو بآخر عكس ما تدعيه هي، خصوصاً أنّ الأعضاء الذين يشتكى منهم في الغالب بهذا الخصوص هم أولئك الموجودون في قاعدة التنظيم.