خطوط المحاور في الإقليم الشرق ـ أوسطي
د. رائد المصري
بهدوء… لأنّ سمة التغيير في منهاج الأداء الأميركي تتبدّل ويتمّ التعديل باتخاذ القرارات فيها بسرعة وتقلب، فهذا يمكننا من معرفة حجم المآزق السياسية والاستراتيجية التي تمرّ بها سياسات ترامب الانفعالية، حيث كان آخرها قراره بإبقاء حفنة جنود أميركيين في سورية، وهذا يعطينا فكرة واضحة كيف تم تثبيت المعادلات السياسية والعسكرية لمحور المقاومة في الإقليم، نتيجة الصمود السوري والحضور الروسي والجرأة الإيرانية في دعم الحلفاء، ويظهر لنا بوضوح أجندات المحاور الإقليمية والدولية المفروضة بعد حرب التدمير الممنهجة في سورية والعراق واليمن وليبيا… وإليكم الآتي:
فمحور المقاومة في لبنان وسورية والعراق وإيران واليمن وكلّ حلفائه، تمكّن هذا المحور من الفوز في الحرب السورية والمدعوم روسياً ومن خلفها الصين، واستطاع أيضاً وضع حدّ فاصلٍ للتفوّق الصهيوني في لبنان وفلسطين ورسم حدود الاشتباك وفق منطقه ورؤيته، ويعمل على بناء استراتيجية خاصة به مستفيداً من حجم التراجع الأميركي في الشرق الأوسط ومن التقدّم الروسي الدافع له بجدية وتوازن ومسؤولية…
وتسعى من جهة ثانية كلّ من تركيا وقطر وبما تبقى من مشروع سياسي للإخوان المسلمين مع بعض قوى اليسار المشوّه المتحالف معها في العالم العربي، لإعادة إحياء اندفاعتها التي كانت خساراتها الاستراتيجية في سورية كبيرة جداً بعد مصر وتونس، حيث يحاول أصحاب هذا المشروع القفز في لعبة بهلوانية بين أطراف الصراع في سورية والمنطقة كحاجة ملحّة يعتبرها الطرف الأميركي مكسباً له والروسي حاجة جاذبة لمساعدته في ترتيبات البيت السوري عبر إغراءات اقتصادية ربما ترتاح من خلالها موسكو للوصول الى الكسب الاستراتيجي الأكبر في إخراج أميركا والحفاظ على علاقات جيدة مع دول الخليج ومصر وإبقاء مكتسباتها ناجزة لا ينغص عيشها فيه أحد.
هذا المشروع التركي الإخواني المستفيد من قوة أردوغان كـ «قائد ورمز» كان يؤمن باطنياً ويعمل على حلّ الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» عبر هدنة طويلة مع الكيان الصهيوني تغطيها الأغلبية العربية الإخوان المسلمون وتمتدّ إلى أكثر من خمسين عاماً، لكن ومن حسن حظ الأمة وفلسطين فإنّ تل أبيب لم تقبل هذا العرض وطلبت من المحور أن يكون شريكاً في صفقة القرن، وأن يضغط باتجاه تخلّي الفلسطينيين عن حق العودة والقدس ومباركة الإستيطان في الضفة الغربية، لكن فشل المشروع التركي الإخونجي أيضاً في سورية جعله يستفيد من التراجع الأميركي لعودة أردوغان لعب دور إقليمي كبير في الشرق الأوسط، وحماية قطر من مخاطر جيرانها أصحاب الرباعية وعلى رأسهم السعودية. وهذا الدور التركي الاستعماري الجديد بالحوامل الإخوانية يبقى تأثيره ضعيفاً نتيجة ضعف تمثيله العربي والسني بالتحديد، لكن من دون الإفصاح عن ذلك حتى يترك المجال لعنوان إيران الجاذب للاصطفافات المذهبية أكثر والقادر برأيهم على التحشيد العربي بإندفاع كبير…
أما المشروع السعودي المدعوم أميركياً وبتحالف مع الإمارات ومصر والبحرين والأردن، والمستند على الدعم «الإسرائيلي» في توظيف مشروعه لمجابهة إيران في العالم العربي، ولسدّ الثغرة في ضعف هذه الدول التي نتجت عن الحرب السورية أمام إيران وحضورها وأمام المعادلات التي حققها محور المقاومة، فإنّ هذا المشروع الذي تؤدّي فيه السعودية دور رأس الحربة والمتجسّد في مؤتمر وارسو مؤخراً يعاني كذلك من خلل التراجع الأميركي، لكنه يبقي على علاقات جيدة مع الصين وروسيا للخروج من حربها المقززة في اليمن ومساعدتها لوصل ما انقطع للحلّ في سورية، لكن مشكلة هذا التحالف بحوامل مشروعه المشبوه، يعتبر نفسه أنه الآمر الناهي في المنطقة العربية وفي جامعتها وفي منظمة المؤتمر الإسلامي، متناسياً كحلف جديد ونسخة مصغرة عن الحلف الأطلسي الاستعماري، أنه يعاني أيضاً من تراجع أميركا ترامب في الشرق الأوسط، ومن آثار حرب اليمن ومن قضية مقتل الخاشقجي ومن الفشل في تطويع وضبط قطر، وهو غير قادر أصلاً على تسويق نفسه خصوصاً عبر عملية التطبيع العلنية والتحالف المعلن مع الكيان الصهيوني، الأمر الذي يتطلب اندفاعة ومغامرة وتغطية لصفقة القرن، وهو ما فشل إلى اليوم… فهذا الحلف الأخير أو المحور بالقيادة السعودية الإماراتية هو الأخطر على المنطقة من حيث الاستقطابات الحادة، لكنه محور يتحرك دفاعياً لملء الفراغ الناتج عن الانسحاب الأميركي من منطقة الشرق الأوسط، وأهمّ مشاكله تتجسّد في علاقاته مع الصهاينة التي خرجت إلى العلن، وكذلك في فقدان قدرة وقوة الردع «الإسرائيلية» المتراجعة بشكلٍ غير مسبوق في المنطقة…
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية