الشاعر القوميّ أورخان ميسّر… رائد في الشعر السورياليّ المنفتح على الحداثة
لبيب ناصيف
من الرفقاء الشعراء الذين سمعت بهم وكان أورد عنه الأمين جبران جريج في مؤلفه «من الجعبة»، ويكاد لم يسمع به معظم الرفقاء حديثي الانتماء، هو الشاعر أورخان ميسّر.
حدثني عنه في الفترة الأخيرة كل من الأمينين أنيس مديواية وفايز شهرستان، وقد عرفاه حزبياً.
يفيد الأمين فايز بأن الرفيق أورخان ميسر انتمى في حلب في الوقت نفسه مع الشاعر عمر أبو ريشة وكان معهما الرفيق فاتح المدرس «الذي يعتبر أكبر فنان تشكيلي في الشام».
فمن هو الرفيق الشاعر أورخان ميسّر؟
– ولد أورخان شكيب ميسّر في اسطنبول عام 1914 م وتوفى في مدينة حلب عام 1965.
عاش في تركيا وسورية ولبنان وشيكاغو. تلقى مراحله التعليمية من الإبتدائي حتى الثانوي في مدينة حلب، ثم التحق بالجامعة الأميركية في بيروت متجهاً إلى دراسة الطب التي أمضى فيها مدة، تحوّل بعدها إلى دراسة العلوم والفيزياء محرزاً في ذلك درجة البكالوريوس في العلوم، إضافة إلى حصوله على درجة الماجستير في التخصص نفسه.
اقتصر عمله في بداية حياته على العناية بأملاكه الخاصة بعد وفاة أبيه، وفي مطلع الستينات من القرن العشرين عُيِّنَ مديراً للعلاقات العامة في وزارة الإعلام السورية.
نذر حياته لخدمة الأدب والوطن باذلاً في سبيل ذلك الوقت والمال، وكان بيته ندوة دائمة للأدباء والمشتغلين بالفن، ومكافحة الاستعمار، خاصة ما كان من حماسته في الدفاع عن حق أمته في فلسطين، فقد ذكر أنه كان يشتري قطع السلاح من ملكه الخاص، ويمدّ بها المناضلين في فلسطين.
الإنتاج الشعري:
ـ له ديوان عنوانه «سـريـال وقصائد أخرى» منشورات اتحاد الكتاب العرب ط 2 دمشق 1979، وقد صدرت طبعته الأولى في حياة المترجم عام 1948.
الأعمال الأخرى:
ـ له في مجال التأليف: «مع قوافل الفكر» اتحاد الكتاب العرب دمشق 1974، و «شوقي وعصره»، وله في الترجمة: «التنمية القومية» لديفيد كوشمان كوبل دار اليقظة العربية القاهرة، و «الرقص في أميركا».
كنتُ معه في السجن
جواباً عن سؤالنا يفيد الأمين الشاعر نذير العظمة عن علاقته بالرفيق الشاعر أورخان ميسّر، فيقول:
«اجتمعت أنا وأورخان ميسّر للمرة الأولى في سجن القلعة في دمشق عام 1955 بعد اغتيال عدنان المالكي، وبأخيه الرسام عدنان ميسّر في قاووش يتسع بالكاد لمئة شخص، ولكن السلطات التي تآمرت على الحزب أيامئذٍ حشرت فيه ثلاثة أضعاف سعته بحمام واحد، فكنا نتبادل مواقع النوم وقضاء حاجاتنا بالأدوار. وكان موقع أورخان ميسر إلى جانب موقعي فطلب مني الأمين بشير موصلي 2 الذي أشرف على تدبير الأحوال في القاووش أن يخصص الزاوية التي كنت فيها للإلهام. ونظمنا معاً أمسيات شعرية في ذلك المهجع، أنشدت فيها قصائد المقاومة للتعسف والاعتقال القسري التي نشرتها عمدة الثقافة فيما بعد بتوجيه الدكتور سامي الخوري في ديوان «جرّحوا حتى القمر» الذي أنشدت منه قصائد في المحكمة منها «إنّ الكرامة في بلادي لا تباع وتُشترى» مما حفّز القاضي العسكري زهير الغزال إلى إخلاء سبيلي. ومرت الأيام فاجتمعت بأورخان مرة أخرى في عمان بعد انقلابنا على تآمر جديد على الحزب في 1962 فلجأنا إلى الأردن رفقاء وأمناء، ونظمنا مجلساً موحداً للإدارة الحزبية ومقاومة الاضطهاد. دعتني أيامئذٍ وزارة الثقافة الأردنية إلى أمسية شعرية وكانت المفاجأة لي أن يكون أورخان ميسّر هو من قدمني في تلك الأمسية بمجيئه خصوصاً من دمشق إلى عمان. كما قدمتُ حلقات ثقافية نقلتها وسائل الإعلام في تلك الفترة. فالنضال الميداني قرّبني من أورخان وقرّبه مني فكلانا شاعر في ساحة العراك الفعلي والتجديد الشعري في حمى الصراع الفكري في الأدب السوري وآفاقه المضيئة «.
«كان أورخان يعمل في السفارة الهندية في دمشق وكان بيته بمثابة صالون أدبي يجتمع فيه نخبة المبدعين من تيار الحزب وغيره، ويتبادلون أطراف الحديث حول الثقافة والشعر. أثنائذٍ تعرّف إلى أدونيس، كما قدم فايز خضور بنبذة نقدية. أما إبداعه الشعري فينحصر في «سـريـال» الذي نُشر في 1979 مع مقدمة لأدونيس، وهو قصائد تتراوح بين الشعر المنثور وقصيدة النثر على الطريقة السوريالية همّها الأساسي فتح الإبداع الشعري في سورية على الحداثة في الغرب برؤية فرويدية في إطار النضال الثقافي لأجل ولادة جديدة لسورية النهضة.
كتب الأديب ياسين رفاعية في آب 2008 الكلمة الآتية عن الرفيق الشاعر أورخان ميسّر:
«قبل ثلاثة وأربعين عاماً، رحل عن عالمنا الشاعر السوريالي الأول أورخان ميسر، بل كان الشاعر السوريالي الأول على مستوى العالم العربي كلّه، والذي جهد في ابتكار نظرية خاصة بالسوريالية في مقدّمة ديوانه اليتيم والاستثنائي «سـريـال». كان ميسّر متفرداً في سورياليته، فقد طرح مفهوماً جديداً وغريباً في الشعر السوريالي من خلال تأكيده على أن اللغة في الشعر السوريالي لغة علمية، فيما هي في بقية أنواع الشعر لغة أدبية. في معنى أن لغة العلم لا تسمح بالعواطف، لأنها تدخل في مجال الاكتشاف أكثر مما تدخل في مجال الإبداع. وله في ذلك وجهة نظر فلسفها في مقالاته وليس في شعره. فهي محاولات تحررية في سبيل التخلص من ضغط كابوس المقاييس الفنية، فللذهن أثر ظاهر يُدنيها من الإنتاج العلمي والفلسفي، بصرف النظر عن جمال صورها أو قبحها، وعن مطابقتها للمقاييس الإجتماعية أو تنافرها معها فـ «الفن الصحيح هو الذي يرسم الانعكاسات التي تتولّد نتيجة للتفاعل بين نضالنا الخارجي وذاتنا المجردة، بعيداً عن دائرة المنطق، وبعيداً عن التأثر بأي توجه فكري».
الشاعر أدونيس الذي ساهم في نشر ديوان «سـريـال» قدّم له بالقول: «لئن كانت الثورة الشعرية مجموعة من المتغيرات الجذرية في مفهوم الشعر وفي بنية الكتابة الشعرية على السواء، فإنّ إنتاج أورخان ميسّر يندرج في المقدمات النظرية الطليعية لهذه الثورة في الممارسة الشعرية العربية. إننا في هذه الثورة ننتقل من صورة جديدة للإنسان العربي إلى صورة جديدة للشعر العربي، أي من انقلاب في فهم الإنسان إلى انقلاب في فهم الكتابة».
صارع أورخان ميسّر المرض حتى آخر أيامه عام 1965. وأذكر للمناسبة أن مؤتمراً طبياً عالمياً متخصصاً في مرض السرطان كان منعقداً في تلك الفترة في كـلية الطب في الجامعة السورية في دمشق ضمّ نحو مئتي طبيب متخصص في السرطان، فإذا بكوليت خوري تدخل القاعة وتصيح بأعلى الصوت: «كفوا عن هذه المناقشات وتعالوا معي لعلّكم تنقذون لنا شاعراً يعاني من عذابات هذا المرض». وكم كانت المفاجأة كبيرة عندما توقف المجتمعون عن مناقشاتهم ليختاروا عشرة أطباء رافقوا كوليت خوري إلى منزل أورخان ميسّر في الروضة قرب وزارة الثقافة، وكنتُ حاضراً الحادثة. اطّلع الأطباء على الصور وعُلَب أدوية العلاج حتى قال أحدهم: «لقد فات الأوان يا سيدتي». عندئذ ابتسم أورخان بمرارة، ووقف بصعوبة مصافحاً الجميع، وقبّل يد كوليت خوري شاكراً لها ما فعلته، قبل أن يجلس على كرسيّه، وبيده كأس الويسكي يرتشف منها بضع قطرات بكل هدوء، لعلّها توقف ذلك الألم العظيم.
كان ذلك في أواخر نيسان 1965. وبعد يومين شيّعناه إلى مقبرة الدحداح حيث رثاه سعد صائب، بينما خلع سعيد الجزائري نظّارتيه وحطّمهما على طريقة بطل رواية «الساعة الخامسة والعشرون» وهو أيضاً حطّم نظّارتيه في المعتقل مردّداً لرفيقه: «ما من شيء بعد اليوم يستحقّ أن أراه».
أوردنا في النبذة المعممة بتاريخ 08/10/2014 تحت عنوان «دور القوميين الإجتماعيين في معركة الجلاء في الشام» المقطع الآتي:
– في حلب، إلى إصدار المنفذية عدّة نشرات تحثّ على مواصلة الجهاد، شارك الرفقاء في الثورة المنظمة التي كانت مهمتها الأولى مهاجمة الثكن العسكرية طوال الليل، إرهاباً للفرنسيين وتشجيعاً للجنود الفارين.
وشارك الرفقاء أيضاً بفرقة مسلحة مع الحرس الحكومي والأهالي لتثبيت الأمن. وقد جرح في المعارك الرفيقان الشاعر أورخان ميسّر وعمر ترمانيني.
– يملك الأمين فايز شهرستان معلومات عن دور حزبيّ للرفيق الشاعر أورخان ميسّر في الفترة التي أعقبت 8 شباط 1963 نأمل في أن تدوّن فتنشر لاحقاً.
رئيس لجنة تاريخ الحزب