فيروس أَمْ وباء؟

نسيب أبو ضرغم

لم يَعُد موضوع نقاش عما إذا كانت «داعش» صنيعة الاستخبارات الأميركية وحليفاتها أم لا، فالأمر قد حُسِمْ، وها هي «داعش» «التي شنت عليها الولايات المتحدة الأميركية حربها» لا تزال كما هي، بل ازدادت تسلحاً وثقة أكبر بالنفس، ذلك أن التحالف الدولي الموكل إليه أمر «داعش» كان أميناً على الخطة الموضوعة من قبل التحالف الصهيو – أميركي، فلم يخرج عليها قط. كذلك أثبت دقة متناهية في توجيه الضربات المحسوبة على «مواقع داعش»، في حين لم يكن يطبق مثل هذه الدقة في رمي الأسلحة والذخائر فكانت «تقع بأيدي داعش»، من دون أن تكون «الضربات» المشار إليها ذات فاعلية.

ذلك كلّه لماذا؟ لأن «داعش» أريد منها أن تكون «فيروس» مهمته هَدّ الجسم والتهامه والقضاء على جهاز المناعة فيه، وهي بهذه المهمة تعتبر حاجة استراتيجية للمشروع الصهيو – أميركي.

مَنْ غير «داعش» يستطيع حرمان الدولتين الوطنيتين في الشام والعراق من الموارد غازاً ونفطاً؟

مَنْ غير «داعش» يمكنه تعميم «ثقافة التوحّش» وسط مجتمعنا القائم أصلاً على قيم التسامح؟

مَنْ غير «داعش» يعمل على تفكيك البنى الاقتصادية والسياسية والثقافية للدولة الوطنية، الدولة التي هي العدو الأساس للمشروع اليهودي؟

مَنْ غير «داعش» يمكنه أن يقدم «العدو اليهودي» كأنّه مكون طبيعي في بلادنا؟

مَنْ غير «داعش» ينجح في تقديم الدين الإسلامي على أنه دين التوحش والظلامية، فيجعل اليهودي يكسب جائزته الاستراتيجية في تثوير الغرب المسيحي عليه، وبالتالي يصبح العالم الغربي برمته مجنداً في المشروع اليهودي الهادف في المحصلة إلى تفكيك مجتمعاتنا وتقسيمها وتحويلها إلى جحيم لا يطاق؟

لماذا «داعش»؟ ولماذا أخواتها العديدات؟

لأن هذه المنظمات التكفيرية لا ترى عدواً لها إلاّ الذي يخالفها الفكر من أبناء المجتمع الذي نشأت فيه، وهي تعتبر أن انتصارها الحقيقي هو انتصار داخلي يتمثّل في الإمساك بالسلطة لفرض المفاهيم العائدة لها بقوة هذه السلطة. فهي تقود إذن معركة مفاهيم موضوعها ربح السماء، فيما يرعى الذي أنشأها هذه المعركة ليربح منها الأرض.

السؤال: هل هذه المنظمات هي بمثابة الفيروس أم الوباء؟

بالتأكيد، لا يغيب عن ذهن مُصَنِّع هذه التنظيمات أنّ «فكرها» الموروث من مراحل في التاريخ الإسلاميّ الخوارج ـ الحشاشون… هو فكرٌ ـ وباء، وهو ككل فكر طبيعته الانتشار، فلو قدر له من أسباب القوة والانتشار ما يكفي، لتمدد وانتشر بسرعة الوباء فعلاً. الذي صَنّع هذه التظيمات يدرك ذلك، ولكنه في كل مرة يقدم على توظيف مثل هذه المنظمات، يرى إليها من مستويين اثنين:

الأول: هو المستوى التكتيكي الذي يريد عبره تحقيق أهداف محددة، تستطيع هذه التنظيمات تنفيذها بسرعة فائقة ومن دون أن يتحمل أيّ أعباء، بل على العكس من ذلك، تلك التنظيمات أمّنت لمصنعها فوائد جمة لمصانع سلاحه وشركاته، بحيث باتت السيف المصلت على رقاب حلفائه، يستنفره ساعة يتقاعسون عن دفع أموالهم له، بحيث يمكن أن نطلق عليها مصطلح «بزنس الإرهاب».

هي بحدود هذا الدور، مجرد فيروس مهمته أن ينهش أعصاب الجسم، ويفتك بجهاز مناعته، ويحوله إلى كتلة رخوة قابلة للتفكك.

الثاني: هو المستوى الاستراتيجي، والمتمثل في دور الوباء. إن مُصنِّع هذه المنظمات الإرهابية يملك تجربة عميقة معها، وليست تجربة «القاعدة» أولى هذه التجارب، ذلك أن التحالف الصهيو ـ أميركي الآن والصهيو ـ غربي سابقاً يدركان، أن تحقيق الانتصارات التكتيكية لهذا الفيروس، سيولد فيه الاستعداد والثقة اللازمين ليتحوّل إلى وباء، بل ليخرج من أعماقه الوباء المنطوي فيه. هما يدركان ذلك، لكنهما يقدمان في كل مرة على تنظيم هذه الجماعات وتغذية فكرها ففي ذلك مصلحة استراتيجية لهما في تدمير المجتمعات، ثقافة ونسيجاً اجتماعياً ونظاماً ووحدة شعبية، وهذا يمثل في نظرها انتصاراً يمكنها أكثر من تدمير هذا الفيروس لحظة يتحول إلى وباء.

بل أكثر من ذلك، نراهم مثلاً في مراحل معينة يوزعون إلى قادة هذه التنظيمات بتوسيع دائرة تهديداتها، فمثلاً نسمع «البغدادي» يهدد مصر والسعودية وحتى القواعد الأميركية، لماذا؟

لأن هذه التهديدات تساهم في ابتزاز عرب النفط فيسارعون إلى دفع الملايين وعشرات الملايين لتعود القاذفات الأميركية وترمي قذائفها على حواشي دولة «داعش».

طالما أن فيروس «داعش» سيبقى في حدود الجسم المستهدف سوف تبقى «داعش» وتقوى أكثر، لكن حينما تنتقل من مرحلة الفيروس إلى مرحلة الوباء العقلي الذي يضرب مفاصل المصالح الأميركية في المنطقة والخارج، سوف تنتقل الولايات المتحدة وحلفاؤها لمحاربة هذا الوباء فعلياً.

تماماً كما حصل مع «القاعدة» فـ«القاعدة» صناعة الاستخبارات الأميركية. هي صنعتها وهي خططت لها، وهي سلّحتها، لتحقق للولايات المتحدة مصلحة استراتيجية في طرد الروس من أفغانستان بعد استنزافهم. بقيت الولايات المتحدة خلف هذا التنظيم حتى اللحظة التي تحوّل فيها إلى مشروع «وباء» فانقلبت عليه وطردته من أفغانستان وقتلت زعيمه وما زالت تلاحقه.

أميركا تتصرف مع هذه التنظيمات التكفيرية على قاعدة ربح المُعجّل أي ضرب الداخل والتنبه للانتصار على المؤجل تحوّل الأداة إلى مشروع .

هل ستنتقل «داعش» إلى دور المشروع المستقل؟

قد يكون ذلك؟ فقد بدت ملامحه تظهر شيئاً فشيئاً.

في جميع الحالات، نحن المستهدفون، أرضنا ومجتمعنا وأبناؤنا ودولتنا وتاريخنا وحضارتنا… وبكلمة، وجودنا في الماضي والحاضر والمستقبل. نحن المستهدفون في الحالتين، حالة الفيروس وحالة الوباء.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى