ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…
ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…
تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم سبت، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.
وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.
كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.
إعداد: لبيب ناصيف
سيرة ومسيرة الامين لبيب ناصيف 7
– خليه يقعد عاقل !
كانت أخبار تحركاتي تصل إلى المكتب الثاني، ومنها إلى الوزير فؤاد بطرس، وكان بدوره يتصل بخالي أندره جحا ويطلب إليه أن يوصل إليّ تحذيره .
– هالمرة مش رح اتدخل .
عيون المكتب الثاني المنتشرة في كل مكان كانت أيضاً في الجامعات والثانويات والمقاهي وعند الأرصفة. كلها كانت معبأة لترصد تحركات القوميين الاجتماعيين، خاصة وان أجهزة الحكم تعرف أن الحزب أعاد تنظيمه الإداري في المنفذيات، وأن نشاطه جيد ومتنامٍ في الجامعات وفي مدارس العاصمة والمناطق، كما أن معنويات أعضائه في ارتفاع ملحوظ.
الأمين عبدالله محسن كان يدير، بكثير من الحنكة الاتصالات السياسية باتجاه الحصول على عفو عام عن الأسرى القوميين الاجتماعيين، كما كان يدير بمثاليته القومية الاجتماعية الحزب، ويعالج المسائل بمناقبية عُـرفت عنه.
الأمين محسن من قيادات الحزب التي بها نفخر، في إخلاصه وفي تفانيه، وفي صدق التزامه، ما يعطي قدوة لمن يعمل معه، ولمن يتصل به من مسؤولين ورفقاء.
عملتُ معه سنوات، كما مع الأمين كامل حسان بعد خروجه من الأسر في دمشق وانضمامه إلى اللجنة المركزية، ومع كل من الامناء: خليل دياب، مسعد حجل، والياس جرجي. حقك أن تختلف معهم، وان ترى هفوات هي من طبيعة البشر، إنما لا تستطيع إلا أن تقرّ لهم بميزة الإخلاص اللامحدود، ومن أنهم جُـبلوا من طينة النهضة، وشربوا من لبنها حتى الثمالة، فما عرفوا غيرها ولاءً أو التزاماً أو هدفاً في الحياة. هم، وغيرهم من الذين تتلمذوا جيداً على يد سعاده وآمنوا جيداً وناضلوا، مستمرون في ضمير حزبهم، في تاريخه، مع كل جيل يريد أن يعرف كيف كان، أولئك الرسل، حياة وسلوكاً وتضحيات .
الاتصالات السياسية التي امسك بدفتيها الأمين عبدالله محسن بجهد متواصل وبدقة متناهية كأنه يسير بين أكوام من بيض عصفور، مع قوى سياسية وعسكرية في الحكم، كما مع قادة الحزب السابقين في الأسر، تستحق كتاباً لم يكن يستطيع أن يصيغه سوى الأمين محسن الذي كان ممسكاً بكافة المساعي ومتابعاً لها وعارفاً بدقائقها. كذلك الأمر بالاتصالات والقرارات التي صدرت بتأييد هذا المرشح أو ذاك في انتخابات العام 1968 وكانت مرتبطة بالمساعي الحثيثة للحصول على العفو الشامل.
المؤسف انه لم يدوّن مذكراته، ومثله الامناء الراحلون الياس جرجي وكامل حسان وخليل دياب الذين رافقوا الاتصالات السياسية للامين محسن، ومع ان الامين غسان عزالدين كتب عن ذلك في أكثر من مكان في اجزاء مجلداته «حوار مع الذاكرة»، وكتب الامين مسعد حجل الذي كان مساهماً، ومتابعاً أكثر عندما دخل الامين عبد الله محسن السجن، ودخلنا معه، فتابع بالتنسيق مع القيادات في الاسر، الاتصالات المرهقة التي كان انضجها الامين محسن، وصولاً الى صدور قانون العفو العام عن المجلس النيابي نقترح مراجعة مذكراته تحت عنوان «لم أبدّل ولن…».
نحن ندعو كلا من الامين غسان الاشقر، والرفيق صباح عبد الله قبرصي الى ان يدوّنا ما يعرفانه وهما كانا يواكبان تلك المرحلة من العمل السياسي.
التاسع عشر من نيسان 1967 كان يوم أربعاء. كنا حتى الأمس نتحرك كالعادة: الساعة.. اجتماع هنا. الساعة.. اجتماع هناك، الخامسة: حلقة إذاعية، السادسة والنصف: زيارة لـ…
كنتُ أخرج من بنكو دي روما، لا إلى البيت، إنما إلى أي مكان، وإلى أي لقاء أو اجتماع أو متابعة. كم وكم وكم عرفتنا الجامعات و»مكتبة برباري»، ومقهيا « نورا» و «لا دونا» وغيرهما عند الاقتضاء. وكم مرة ومرة زرنا المناطق وانتقلنا من بلدة إلى أخرى، ومن رفيق إلى رفيق، ومن مواطن مهيء للقسم إلى آخر. سيارة الأمين أنطون حتي لعلّها تحكي وتشرح، وقد انقلبت بنا ذات يوم فيما نحن عائدون من الهرمل إلى رأس بعلبك حيث كان بقي فيها الرفيق جوزف بابلو 1 لتغطية حلقة إذاعية وبقي معه الرفيق بهيج أبو غانم الأمين، عضو المجلس الأعلى لاحقاً . سيارة الأمين عدنان طيارة أيضاً. وسيارة الرفيق الدكتور صلاح زهر. الكورة، جبيل، الهرمل، النبي عثمان، رأس بعلبك، عكار، مرجعيون… تحكي. كذلك الرفقاء الذين نشطوا في تلك الفترة.
لا أحد تقاضى مبلغاً ولا طلب ثمن تنكة من المحروقات. التنقل من مكان إلى آخر، والجلوس في المقاهي يكلّـف مالاً، فكيف إذا كانت الجلسات عديدة، يومية، ومثلها التنقلات.
فجر ذلك الأربعاء 19 نيسان اعتقل الرفقاء أنطون حتي، جان وكمال نادر، جميل عساف، نقولا نصر، سهيل عبد الملك، ومحمد السعدي.
فوجئنا. لم يكن متوقعاً اعتقال رفقاء جدد فيما المساعي ناشطة في سبيل العفو العام عن الرفقاء الأسرى الذين كانوا شاركوا في الثورة الانقلابية .
توجهتُ فوراً إلى منزل الأمين عبدالله محسن في جوار بلدة «حدت بيروت». أخبرته، وعرضتُ له رأيي.
– فلتأخذنا الدولة «مسبحة» واحدة، لا حبة حبة .
تابعت:
– لنجابه الدولة كلنا. لتعتقلنا كلنا، خلّيها تكبر .
وافق.
لم أتوجه إلى دارة الرفقاء برباري في بطلون المنصورية كما في المرة السابقة. لم ألجأ إلى أي مكان. فوراً اتصلتُ بالرفقاء المسؤولين .
– استمروا بالعمل .
الرفيق سمير ضومط 2 الذي وقفتُ معه عند زاوية محطة المحروقات التي كان يملكها وشقيقه في منطقة انطلياس، تحمّس، لم يتراجع وقد عرف أن رفقاء اعتقلوا. القرار بالمجابهة أعطاه قوة نفسية ومعنويات، فليكن مثل رفقائه.
حنانيك يا رفيق يوسف سالم. يا بطلاً من أبطال النهضة خسرناك قبل أوان رحيلك بكثير. ما عرفته يوماً إلا مشعاً بالذكاء وبالمناقب وبالإيمان وبالحركة التي لا تعرف تباطؤًا، كم سار معي وكم اتصل مُـبلغاً أوامر الاستمرار بالعمل .
لم يخف رفيق، ما وجل أحد، الكل استمروا.
الطالبان سمير سامي صيقلي، ووليد شفيق صدقة عبد الخالق كانا في الصف التكميلي في مدرسة «التنشئة الوطنية» لصاحبها ومديرها الرفيق إياد موصلي.
الرفيق جميل عساف الامين لاحقاً الذي كان أحد الذين اعتُــُقـلوا، كان يتولى متابعتهما إذاعياً، كما العمل الحزبي في المدرسة، مع ذلك أصرّا. في الشقة التي كان يقيم فيها الرفيق عاطف ضو الأمين الراحل، المشعّ بالالتزام القومي الاجتماعي والرفيق السابق رؤوف أبو زكي في منطقة الأرلكان القنطاري، رفعا الأيدي وأقسما. الأمين بهيج أبو غانم كان معي.
يوم الثلاثاء 25 نيسان، أي بعد مضي ستة أيام، جاء دور الدفعة الثانية. كنا: الامين عبد الله محسن والرفقاء: بهيج أبو غانم، غانم خنيصر، و لبيب ناصيف.
في ثكنة المير بشير، نُسأل ونجيب.
نعم، نعم، نعمل للحزب، للعفو.
من معك ؟
غسان الأشقر، غسان عز الدين، هنري حاماتي، و… و… خذونا كلنا إذا شئتم.
القاووش رقم 2 في البناية الثانية، دخلته هذه المرة كمن يدخل إلى بيته، إذ سبق وولجتُ بابه في العام 1965.
لم أقف مشدوهاً كما المرة الأولى، خاصة أني لم أكن وحدي، بل كان الرفيق جان نادر قد سبقني إليه.
في 29 نيسان أخلي سبيلنا مدنياً وأحلنا إلى النظارة العسكرية. بعد تحقيق، أصدر المحقق العسكري الأستاذ جورج غانم مذكرة توقيف في أول أيار وأحالني إلى سجن الرمل مجدداً، لأخرج منه بكفالة يوم السبت في 13 أيار .
المصرف كان ذكياً هذه المرة، فلم يتخذ قراراً بصرفي، إنما أوضح لي أنه سينتظر صدور الحكم.
وخرج الرفقاء إلى العمل الحزبي مجدداً. لم يتوبوا كما راهنت الأجهزة. لم تضغط عائلاتهم عليهم كي يوقفوا تحركهم. لم يتراجع أي رفيق، ولم يخفف أي منهم، من اندفاعه في العمل الحزبي.
ومثلهم كان الرفقاء والأصدقاء، فقد اندفعوا أكثر إلى العمل، وقد وجدوا رفقاءهم الذين كانوا اعتقلوا، أشد صلابة من ذي قبل وأكثر تحركاً. لم أعلم أن رفيقاً واحداً أو مواطناً صديقاً توقف عن العمل الحزبي، أو تراجع، أو تأثر سلباً واختار القعود، على العكس كنا نرى العشرات منهم يحضرون جلسات المحكمة العسكرية، كأني بهم يتدربون على ما قد يصلون إليه.
واستمرّينا: «نوراً»، «لا دونا»، مكتبة «برباري»، الجامعات، المقاهي، المناطق، كأن شيئاً لم يكن.
– خلّيه يقعد عاقل .
تأتي النصيحة من الوزير فؤاد بطرس. تتكرر. العيون تراقب، الأخبار تصل، التحذيرات.
البنك بدوره ينتظر. جلسات المحكمة تتأجل: 5 نيسان 1968، 10 تموز، 11 أيلول،
ندخل إلى القفص في قاعة المحكمة العسكرية، نتبلغ قرار التأجيل. نغادر، ويعود كل منا إلى عمله، أو إلى دراسته، ودائماً إلى نشاطه الحزبي.
إلا أن يوم 5 تشرين أول عام 1968 كان يوماً آخر: عبدالله محسن سنتان، لبيب ناصيف سنتان، أنطون حتي، جان نادر، نقولا نصر، سهيل عبد الملك، وبهيج أبو غانم سنة ونصف، غانم خنيصر، جميل عساف، محمد السعدي سنة واحدة، كمال نادر 4 أشهر.
التفتنا إلى الوراء حيث كانت اكتظت قاعة المحكمة العسكرية. رفعنا اليد للرفقاء وللأصدقاء، رفعوا اليد يبتسمون لنا ويلوّحون فيما نحن نتوجه إلى نظارة المحكمة العسكرية، بينما خرج الرفقاء الآخرون الذين كانوا اعتقلوا لأيام أو جلبوا إلى المحاكمة بعد أن وردت أسماؤهم في التحقيقات، من القفص مباشرة إلى منازلهم.
أحكام البراءة طالت الرفقاء غسان الأشقر، غسان عز الدين، هنري حاماتي، زكريا لبابيدي 3 ، عبد اللطيف غلاييني 4 ، سمير أبو نادر 5 ، عبدالله الغريب 6 ، عدنان طيارة 7 وجوزف خوري 8 وآخرين.
وأذكر من المحامين: الأستاذ بهيج تقي الدين عن الرفيق بهيج أبو غانم، الأستاذ عادل بطرس عني ، الأساتذة بدوي أبو ديب، بطرس سكر، مخايل ضاهر، الرفيق جمال فاخوري 9 والرفيق رامز يعقوب 10 ، عن الامين محسن والرفقاء الآخرين.
الصمت سيد المكان: كل ينظر إلى رفيقه. الرفيق جان نادر كان حجز بطاقات لحضور فيلم سينمائي مساء. يبتسم، الرفيق سهيل عبد الملك 11 خلع جاكيتته وتمدد فوق المرتفع الحجري لا هو بسرير ولا بمقعد. فقط مرتفع من الباطون على امتداد ثلث مساحة النظارة يستعمل للتمدد، أو للنوم .
الأمين عبدالله محسن يفكر، الرفيق محمد السعدي 12 ، الأكثر تقدماً بالعمر بعد الأمين محسن، وكان بيته بيتاً للرفقاء وللعمل الإذاعي، ينظر شارداً وهو يفكر كيف ستتدبر عائلته قوتها في غيابه.
– شرّفوا .
خرجنا، اثنان اثنان، القيد إلى القيد، صعدنا إلى سيارة الشحن المقفلة، قبل ذلك نظرنا إلى فوق، البنايات والشرفات، إلى حيث الطريق والمارة، ودخلنا.
في سجن الرمل أخرجنا ما نحمل من مال، نزعنا الساعات والأحزمة وأشرطة الأحذية، سلمنا بطاقة الهوية، سجلوا، وقعنا.
ساروا بنا إلى الباحة الداخلية وسط بنايات السجناء.. رقيب، دركيان، سجين.
– حط رأسك .
وأشار إلى برميل، حاولنا، ممنوع، اسمع، اقشع، نظام، ممنوع.
عندما رأينا الأمين عبدالله محسن حليق الرأس، ابتسمنا، عندما رآني الرفقاء راحوا يضحكون. ومثلهم رحت أضحك كلما اقترب رفيق ليمد رأسه فوق البرميل.
اشلحوا، شلحنا، يومها عرفتُ فضيلة أرتداء السليب، فتشوا، البسوا، لبسنا.
– يلا .
وسرنا الى حيث اشاروا.
وقف الأمين عبدالله في حالة ذهول، مثله وقفت. القاووش في بناية المحكومين هو غيره في بناية الموقوفين، حيث يعامَـل السجين برأفة إذ قد يكون بريئاً، او مذنباً، أما هنا فالجميع مجرمون، مذنبون، مدانون.
الشاويش أفرد لنا مكاناً جيداً بعد ان قرأ اننا حُكمنا بسبب العمل لحزب ممنوع، إنما… لم أعرف النوم ليلتئذ، ولا أعتقد أن الأمين محسن نام بدوره.
في اليوم التالي جمعونا في قاووش واحد. تُـرى هل أفلحت وساطات الرفقاء في الخارج، وبهذه السرعة، أم أن الإدارة اختارت «الحجر الصحي» علينا، فتتقي شرّ نشرنا لتعاليم الحزب بين السجناء، أو تحريضهم عليها في أي مناسبة آتية .
القاووش رقم 4 في البناية الثانية للموقوفين كان ضيقاً علينا نحن الإحد عشر سجيناً، إنما وجدناه «قارة». فلقد بتنا سوياً.
– لازم تختاروا شاويش للغرفة.
واختارني الأمين عبدالله محسن، لأبدأ والرفقاء مرحلة جديدة من النضال أستطيع أن أقول عنها أنها كانت رائعة. فلا يوم حصلت مشكلة، ولا أحد زعل من أحد، وما اشتكى رفيق رفيقه. كنا شخصاً واحداً .
لكل رفيق دفتر مالي يتسلمه من إدارة السجن، التي تسجل المبلغ المالي الذي كان في حوزته عند دخوله السجن، ثم تباعاً كل مبلغ يرده من الخارج، أو يصرفه لحاجته، إذ بواسطة هذا الدفتر يسجّل السجين ما يرغب شراءه من مطعم السجن الذي يضمنه، عادة، شخص من خارجه، وهذا المطعم هو غير مطبخ السجن وما فيه من «قروانة» 13 ، ومن طعام لا يؤكل .
وفي الغرفة «خزانة» هي رفوف من باطون، وكل مربع يخص عدداً من السجناء ليضع فيه أغراضه وما يصله من عائلته أو من أهله من طعام وفاكهة .
هذا النظام المتبع في السجن، لم ير النور في القاووش رقم 4 من البناية الثانية، فالدفاتر هي في حوزة الشاويش. له أن يسجل على هذا الدفتر مبلغ خمس ليرات ليرات تلك الأيام لقاء مشتريات من المطبخ وعلى ذاك الدفتر ليرة واحدة، فلا هذا الرفيق اعترض ولا ذاك. المقياس هو وضع الرفيق المالي، وقدرة عائلته على تزويده بما يحتاج إليه.
الصندوق واحد، القرار واحد، والرفقاء لا يسألون ولا يدققون ولا يعترضون، ولو سجلّ الشاويش على دفتر أحدهم أضعاف أضعاف ما قد يكون سجلّه على دفتر رفيق آخر .
الطعام الذي يصل من الأهل إلى الرفيق، ليس له ولا للقسم الخاص به في الخزانة، هو للجميع، القليل الآتي ينضم إلى الكثير. «الحرام» يمتد، فتنزل كل الأطباق، والجميع حول «الحرام الشرشف»، وحول طعام واحد.
للشاويش ان يقدّر حاجة الغرفة: صابون، تايد، صحن حمص، ويسجل على أي من الدفاتر، دون أن يُطلع الرفيق صاحب الدفتر، الذي بدوره لا يسأل ولا يعترض.
لم أسمع طيلة الأشهر أي رفيق يسألني لماذا سحبتُ من دفتره مبلغ كذا، أو وشوش في أذني راغباً أن يستأثر باكلة طيبة أرسلتها له أمه.
كان الرفقاء «رفيقاً واحداً» على تنوع المشارب والاعمار والثقافة. فرئيس الحزب الأمين عبدالله محسن إلى جانب الرفيق غير المتعلم محمد السعدي، شبه الأمي، وهذا إلى جانب طالب الطب الرفيق أنطون حتي، والرفيق كمال نادر ابن السادسة عشرة إلى جانب الرفيق الأربعيني سهيل عبد الملك .
– بهيج أبو غانم إلى الإدارة .
وخرج الرفيق بهيج، ثم عاد ضاحكاً.
– خير إنشاء الله .
والد الرفيق عصام زهر الدين 14 طلب إليه أن يتسلّم إدارة مكتبة السجن، هو عيد للرفيق بهيج ولنا. لم أقرأ في حياتي كما قرأتُ في السجن. المكتبة كانت بتصرفنا، وأي كتاب هو لنا إذا رغبنا قراءته.
– الأستاذ عبدالله محسن إلى باب البناية .
خرج الأمين عبدالله ليعود إلينا مبتسماً .
وسألناه بلهفة .
أوضح: متعهد مطعم السجن، وفد ضمنه بعد فوزه بالمناقصة التي أجريت، كان رفيقاً وقد سمع أني في السجن، ويلّي بدك ياه يا حضرة الأمين .
رحنا نكثر من أكل «الفتة»، وأحياناً نوصي المطعم على طعام معيّن لا ينجزه عادة للسجناء، فيفعل.
الأكل الطيب من الأمينة هيام محسن كان يحوّل القاووش إلى غرفة طعام لا تتوقف، والدتي تسخو وهي مشهورة بأنها تُحسن طهو الطعام، وعائلات الرفقاء، كل بدورها تؤمن أفضل ما لديها.
أول آذار، احتفال وكلمة، وفي كل فترة، مناسبة وقصيدة. شاعر القاووش الرفيق بهيج أبو غانم، ومساعده «الشاويش»، أساهم بالفكرة وببعض الكلمات، أما الصياغة فللرفيق بهيج.
ذات يوم تسلمتُ مشاية، فإذا القصيدة عنها جاهزة. راح الرفيق بهيج يتلو القصيدة ونحن نضحك، وبعضنا يضيف.
القاووش ضيق، إلا أننا معاً. نتقبل كل شيء. الروائح المنبعثة من المرحاض الذي لا يفصله عنا سوى شرشف، ودائماً صوت الرفيق جميل ينبّه: كبّ مي. الجلوس والارتخاء المستمر، إلا عندما نخرج إلى «اليقلما» يومياً، الى المكان الذي يسمونه فرندا أي الشرفة وهذه فسحة في آخر البناية، حيث يمكن للسجين أن يسير أكثر، ومنها كنا ننظر إلى البنايات المطلّة على السجن. نرى الشمس وبعضاً من عصافير، ونلمح بشراً، فنتوق الى الحرية.
الرفيق أنطون حتي يعود من المقابلة فرحاً وفي قلبه غصّة. يهمس الرفيق جان نادر في أذني: اجت «زهية».
في تلك الفترة عرفنا أن طالب الطب على علاقة حب بالرفيقة زهية عبود 15 . ورحنا مع الرفيق أنطون، ننتظر مثله المقابلة ونسأل.
شقيقتي هدى، رغم وضعها الصحي، تجلب الطعام وكل ما يلزم ولا تنسى يوماً ولا مناسبة. تنتظر كغيرها أمام السجن. يأتي الدور، غيرها يطحش ويخانق. هي لا تستطيع. الطقس أحياناً ممطر والبرد قارص. تجاهد كي تصل إلى باب الإدارة. توصل الأغراض، تنتظر الدور مجدداً وتقابلني لدقائق. هي تصيح كي أستطيع سماعها وسط الضجيج والصراخ المماثل. واصرخ بدوري.
– كيف الماما ؟
– حابسة حالها بالبيت، ما بتطلع من البيت ما دام انت بالسجن .
وهبطت مني دمعة. مرة واحدة خرجت والدتي من البيت عندما خرجنا من السجن للمثول امام المحكمة العسكرية. جاءت كي ترى ابنها، وضحكت عندما شاهدته «ابنين».
الرفيقات والرفقاء الطلبة لم ينقطعوا عنها ولم يتوقفوا عن التردد إلى المنزل. الرفيقة دوسي منيّر، وقد ساهمتُ في موضوع انتمائها إلى الحزب، كانت تلازمها كثيراً وتخفف ما استطاعت، الرفيقة دوسي كانت تقيم في جوار منزلنا، نعرفها، أباً وأماً وشقيقة وشقيقين، ولهم نحفظ مودة مستمرة.
«بنكو دي روما» الذي كان خسر جولة العام 1965 ربحها هذه المرة. فالحكم واضح وقد نشرته الصحف. ما عادت تنفع الوساطات، ولا الصداقات، ولا كفاءتي كموظف.
بتاريخ 13/11/1968 وجّه لي محامي البنك، الأستاذ خليل شبلي، رسالة بالبريد المضمون تسلّمتها في السجن، قضت بصرفي من العمل ابتداءً من تاريخ صدور الحكم علي، أي في 5/10/1968.
رسالة مثل أي رسالة أخرى. وقعتُ، تسلمت رسالة صرفي من البنك. عدت إلى القاووش كأن شيئاً لم يكن.
المكتسبات التي كنت احصل عليها في «بنكو دي روما» كانت مميّزة، ولم تكن متوفرة في كثير من المصارف الاخرى.
فالسنة 15 شهراً. وكل ساعة عمل بعد الظهر تُـحتسب ساعة ونصف، الاستشفاء، الطبابة، والدواء، مجاناً. الاتفاق معقود مع شبكة من مستشفيات، اطباء من كل الاختصاصات، صيدليات، مختبرات الخ.. يديرها مستشفى خليفة Centre Khalif .
الدخول إلى مسبح «لونغ بيتش» مجاناً، وللموظفين أربع كابينات، ولكل منهم مفتاح يبقى معه. ثلاثون في المئة من أقساط أبناء الموظفين في المدارس، على عاتق المصرف. لكل ابن موظف قسيمة لشراء ثياب أو ألعاب من أحسن المحلات في نهاية كل عام، بمبلغ أربعين ليرة في الستينات، الأربعون ليرة مبلغ كبير ولكل موظف في آخر العام مكافأة مالية تتناسب مع جهده ونشاطه .
هل أنا نادم ؟ القومي الاجتماعي يندم على شيء واحد: إن حزبه لم يتقدم أكثر، ولم ينتصر بعد.
في الخارج تصلّب الرفقاء أكثر وضاعفوا من نشاطهم. القدوة في سجن القلعة تحمل إليهم الكثير من مناقب العز. «سجن الرمل» وفيه رفقاء، مثلهم طلبة، يعطي أيضاً رسالة صمود وصلابة موقف. فلا هؤلاء جبنوا أو لعنوا مصيرهم أو ندبوا دراستهم، ولا هم تأثروا سلباً وخافوا على مستقبلهم وشعر أي منهم أن عليه أن يختبئ أو أن يطوي راية رُفعت.
الله معك، شد حيلك .
وخرج الطالب في الجامعة اللبنانية، الرفيق بهيج أبو غانم من القاووش إلى البناية الثانية، ومنها إلى مكتب إدارة السجن، ومن الإدارة اقتيد مكبل اليدين إلى كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية. سار بين مرافقيه الدركيين ثابت الخطوات، رافع الرأس، يبتسم لزملائه الطلبة وقد هرعوا للسلام عليه.
لقد سمحت له إدارة السجن بأن يغادر لساعات، يقدم امتحانه ويعود.
وعاد ليحكي لنا عن الرفقاء، وعن الأصدقاء. كيف رحبوا به، وكيف هم أقوى وأشد نشاطاً وأكثر حماساً. الذين راهنوا على أن الحزب سينتهي وقد أمعنوا به بعد الانقلاب بطشاً وقتلاً وتشويهاً للحقائق، خاب فألهم. والذين تراءى لهم أنهم، بإصدار الأحكام بالسجن على عدد من الرفقاء الطلبة الناشطين، سيجعل رفقاءهم يتراجعون، وجدوا عكس ذلك، فالرفقاء الطلبة استمرّوا في عملهم، ورفقاء آخرون تولوا مسؤولية مكتب الطلبة، فالراية إن وقعت من يد رفيق أمسك بها رفيق آخر واستمر.
الراهب الكاثوليكي الأب مالك شقيق شارل مالك، وشبيهه يزور السجناء ويعظ ويرشد. كان يتردد كثيراً إلى سجن القلعة ويلتقي الرفقاء.
– خلص، وعد يا أبونا.
ابتسم وقد اطمأن أن الرفقاء عند وعدهم له. فقد حلّوا الحزب وارتاحوا وريّحوا.
ذات يوم، هرع إلى سجن القلعة وقد كان قرأ عن الاعتقالات التي طالت الرفقاء الطلبة، وقام بزيارتنا الى «سجن الرمل» .
– نبتوا، نبتوا .
نعم لقد كانوا ينبتون يا أبونا في كل مكان، فلا الاعتقالات، ولا البطش، ولا أنباء القتل، ولا كل أفعال المكتب الثاني، لتستطيع أن تؤثر على نفسية الرفقاء وعلى قرارهم وقد التقطوا الحقيقة ووعوا إيمانهم. لذلك كان اقبال الطلبة على الحزب كبيراً، والانتماءات بعشرات العشرات.
ونجح الرفيق بهيج أبو غانم، وكان بعمله هذا يعطي درساً أن العمل الحزبي ليس هو السبب في رسوب رفيق إن لم يدرس ويعطي واجب الدراسة ما يستحقه من وقت واهتمام. بل على العكس، فالقومي الاجتماعي كلما التزم وتفانى في عمله الحزبي، كلما وجب عليه ان يحقق نجاحاً في دراسته وفي نجاحه في الحياة، فالنهضة تريد رجالاً ناجحين في كل حقل، لا خاملين. وأمتنا تحتاج إلى من ينهض بها نحو مراقي العز لا إلى من يشد بها إلى حيث الجهل والخمول والتقهقر.
في هذا الوقت كانت المساعي التي كان أطلقها الأمين عبدالله محسن بشأن العفو العام عن القوميين الاجتماعيين الأسرى مستمرة بفضل ما كان يقوم به الامين مسعد حجل ورفقاء، من بينهم غسان الاشقر، غسان عزالدين، تيودور رعد، وقد راحت تشمل الرفقاء في سجن الرمل على أن يصدر ملحق بشأنهم.
المجلس النيابي بأكثره بات موافقاً، فؤاد شهاب أعطى الضوء الأخضر، الرئيس شارل حلو ليس القرار ولا العقبة، فصدر العفو العام في 13 شباط 1969، ومعه ملحق عن الرفقاء الذين أسروا في سجن الرمل .
هوامش:
1 – جوزف بابلو: اشرت إليه في عديد من النبذات. كان ضليعاً جداً باللغة الفرنسية. مذيعاً ناجحاً ومثقفاً. نشر عدة دراسات في مجلة «فكر» باسم «احمد صالح» عندما كان اصدرها الامين هنري حاماتي في الستينات من القرن الماضي. غادر الى مدينة «ليون» في فرنسا. تأثر بالفكر الاشتراكي في فترة تولي الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران، فابتعد عن الحزب ولم اعد اعرف عنه شيئاً.
2 – سمير ضومط: اشرت إليه في اكثر من نبذة، وفي أكثر من مكان في «السيرة والمسيرة» كما نشرت عنه كلمة بعد ان كنت علمت برحيله. مراجعة قسم «من تاريخنا» على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
3 – زكريا لبابيدي: للاطلاع على النبذة المنشورة عنه، مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
4 – عبد اللطيف غلايني: كما آنفاً.
5 – سمير ابو نادر: كما آنفاً.
6 – عبدالله الغريب: عرفته ناشطاً ومتولياً المسؤوليات في ستينات القرن الماضي. ثم علمت انه انتقل الى مدينة «جونية»، وتولى مسؤولية مدير مديرية الحزب فيها. يهمني ان اعرف اي جديد عنه، فقد عرفته رفيقاً جيداً، يحيا فضائل الحزب.
7 – عدنان طيارة: اقرأ عنه على الموقع المذكور آنفاً.
8 – جوزف خوري: عرفته في «رأس بيروت» ناشطاً في الستينات، وما بعدها. كان موظفاً في «مصلحة الليطاني». اعرف ان النائب والرفيق السابق ميشال معلولي متأهل من شقيقته الرفيقة نوال.
9 – جمال فاخوري: مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
10 – رامز يعقوب: التقيت به كثيراً في الستينات، خاصة عندما كان محامياً للدفاع. هو من منطقة «عكار». ارجّح من بلدة بزبينا لم اعد التقيت به الا نادراً. اعرف انه محام ناجح، ومثقف قومياً اجتماعياً.
11 – سهيل عبد الملك: مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
12 – محمد السعدي: من بلدة «كفرنبرخ» . وافته المنيّة منذ سنوات.
13 – قروانة: الطعام المعد لغذاء السجناء، يؤتى ضمن برميل، وهيهات ان يؤكد.
14 – عصام زهرالدين: محام. منح رتبة الامانة. تولى في الحزب مسؤوليات محلية في الشوف، وفي المركز منها في عمدة الداخلية. والده كان من الرتباء على ما ارّجح في ادارة سجن الرمل وقد قدم لنا الكثير من الخدمات.
15 – زهية عبود: رفيقة جيدة. شقيقة رفقاء ابرزهم الرفيق ايلي، مقيمون في مدينة «كليفلند». عقيلة الامين د. انطون حتي، ومعه بنت عائلة ناجحة.