كوريا الشمالية تشبّثت بسيادتها وأحبطت الابتزاز الأميركي

في ظرف ساعات معدودة هوى سقف توقعات القمة الثانية للرئيسين الأميركي والكوري الشمالي إلى النقيض أثارت جملة أسئلة جوهرية تسعى للدخول إلى كنه الساعات الأخيرة التي «قلبت» حسابات الفريق الأميركي المنكب على صياغة البيان الختامي المشترك.

في سياق سبر أغوار القوى المتضرّرة من تفاؤل الرئيس ترامب التوصل لاتفاق مشترك على أرضية «نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية»، ينبغي التذكير بفرضية إجماع القوى الأميركية الرئيسة بالتوجه نحو «التعايش مع كوريا الشمالية بأسلحتها النووية»، وفق آليات وترتيبات معقدة تتيح لواشنطن مواصلة سردية هدفها «بنزع الأسلحة النووية لبيونغ يانغ».

ما تقدّم أبعد ما يكون من ثمة فرضية، بل استناداً لأدبيات الأطراف المنخرطة مباشرة في «الوساطة» بين الطرفين، وتصريحات وتحركات قادة دول إقليمية أبرزها الصين وروسيا وكوريا الجنوبية، بدءاً من نقطة تصعيد التوتر الأميركي في شهر أيلول/ سبتمبر 2017 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتوعّد الرئيس ترامب خصمه الكوري الشمالي بردّ مزلزل «بتدمير كوريا الشمالية ومحوها عن الوجود».

قبل اعتلاء الرئيس ترامب منبر الأمم المتحدة ببضعة أسابيع، «سرّبت» الأجهزة الأمنية الأميركية تقريراً تقيّم فيه الحالة الراهنة للأسلحة النووية لدى كوريا الشمالية بالزعم أنها استطاعت تطوير «رأس نووي صغير يمكنها تحميله على صاروخ باليستي»، باتجاه الولايات المتحدة.

انفعال الرئيس ترامب كان متوقعاً مطلقاً وعيده بردّ «لاهب وغاضب Fire and Fury» وتباهى رئيسا البلدين بامتلاكهما «الزرّ النووي الأكبر» بتفعيله لإفناء الآخر، والبشرية معاً.

مروراً بالمراسلات المباشرة المتبادلة بين ترامب والرئيس كيم جونغ أون، وصفها الرئيس الأميركي بأنه «وقع في حب» خصمه الكوري الشمالي، 30 أيلول/ سبتمبر 2018، وأنّ فحوى رسائل الجانب الكوري «حميمية» مما مهّد الأرضية لإمكانية لقاء وزيري خارجية البلدين في بيونغ يانغ، والإعداد للقاء القمة الأول بين الرئيسين.

في تلك الأثناء تحرك عراب التسوية، رئيس كوريا الجنوبية، مون جيه إن، بزيارات مكوكية لتبريد مناخ التصعيد والتهديد، مباشرة وعبر مندوب موثوق له ورفيع المستوى، أثمرت موافقة الطرفين على لقاءات مباشرة عالية بدءاً من وزيري خارجية واشنطن وبيونغ يانغ، في كوريا الشمالية، تأجّلت لاحقاً بقرار أميركي ثم تطوّرت بلقاءات القمة بين الرئيسين ترامب وكيم جونغ أون: الأول في 12 حزيران/ يونيو 2018 في سينغافورة، والثاني في هانوي، 27 شباط/ فبراير الماضي. ويمكننا القول إنّ رئيس كوريا الجنوبية كان يطمع في استضافة قمة ثالثة في عاصمته سيؤول، أو في بيونغ يانغ بحضوره.

تطوّرات الساعة الأخيرة

حمّلت أسبوعية «نيوزويك» الأميركية، 28 شباط/ فبراير مسؤولية فشل لقاء القمة إلى مستشاري الرئيس ترامب قائلة «فشل الاتفاقية نظراً لدور جون بولتون… وممارسته نفوذه على الرئيس ترامب في اللحظات الأخيرة»، وهو الذي لم يخفِ رغباته في «عدم التوصل لاتفاق من أيّ نوع مع كوريا الشمالية».

الجانب الكوري الجنوبي، المتابع بكثب لترتيبات وسير المفاوضات، أوضح للمجلة عقبات «اللحظة الأخيرة» التي وضعها بولتون إذ «.. اشترط تضمين كوريا الشمالية نصاً يلزمها بالكشف ليس عن أسلحتها النووية فحسب، بل مخزونها من الأسلحة الكيميائية والبيولوجية» أيضاً، وفق رواية وزير الوحدة السابق بين الكوريتين، جونغ سي – هيون الذي عبّر عن تفاؤله «شبه المطلق» توصل الطرفين لإتفاق يعلنان عنه في الجلسة الختامية «متفائل بنسبة 100 تقريباً».

على الطرف المقابل، سرت شكوك قبيل لقاء القمة على مستويات متعددة في الجانب الأميركي تتعلق بصدقية الرئيس كيم جونغ أون في الذهاب لنزع الأسلحة النووية، فندته «نيوزويك» بتقرير ميداني بتاريخ 26 شباط/ فبراير تؤكد فيه على تعويل الرئيس كيم إجراء مفاوضات جادة «باصطحابه فريقاً كبيراً من كبار مستشاريه.. على رأسهم نائب رئيس اللجنة المركزية لحزب العمال الحاكم كيم يونغ شول، المبعوث الكوري للمفاوضات النووية مع الجانب الأميركي كيم هيوك شول، المدير الأعلى للشؤون الخارجية كيم تشانغ سون، ونائب مدير هيئة الإعلام في الحزب الحاكم كيم يو جونغ.. فضلاً عن مدير مكتب الرئيس، وشقيقته الموثوقة وهي ربما الشخصية الأشدّ تأثيراً على توجهات الحزب الحاكم». بل توجه مدير مكتب الرئيس كيم، كيم تشانغ سون، إلى هانوي قبل أسبوعين من انعقاد القمة للإشراف على كافة التفاصيل المتعلقة لإنجاح القمة.

وأضافت المجلة نقلاً عن ضابط وكالة المخابرات المركزية الأسبق والخبير بالشأن الكوري، واين مادسين، أنّ الرئيس كيم جونغ اون «.. أحدث تغييرات بنيوية في مناصب كبار المسؤولين قبل فترة وجيزة، بصعود عدد من المسؤولين من مرتبات دنيا إلى الأعلى، كمؤشر للقوى الدولية على السير بجدية لإنجاز تسوية ما».

المجموعة الأميركية الداعية لعدم نشر الأسلحة النووية، بلاوشير فَنْد Ploughshare Fund واكبت الإعدادات وسير المفاوضات بدقة، وأعربت عن موقفها الصريح بأنّ سردية الجانب الأميركي لا تدعمها الحقائق، بل انها «أميَل لتصديق» رواية كوريا الشمالية للنتائج المخيّبة للآمال «إذ ليس من المستساغ أن يقدم الرئيس كيم على السفر مسافة 2000 ميل لنحو ثلاثة أيام بالقطار دون أن يقدّم مطالب عقلانية». أما المستشار الأميركي، وفق المجموعة، جون بولتون، على النحو المقابل، فليس له أيّ رغبة للتوصل إلى اتفاق مع كوريا الشمالية»، حسب توصيف مسؤولة المجموعة كاثرين كيلوغ، منوّهة إلى مقالة بولتون المنشورة في يومية «وول ستريت جورنال»، قبيل انضمامه لطاقم الإدارة رسمياً بعنوان «المبرّر القانوني لقصف كوريا الشمالية أولاً».

وشاطرها الرأي بمسؤولية بولتون النائب السابق في مجلس النواب جون تيرني، الذي يشغل منصب المدير التنفيذي لمركز الحدّ من انتشار الأسلحة في واشنطن، قائلاً «.. بولتون أوضح بمعنى الكلمة أنه لا يؤمن بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية».

السؤال المحوري هو هل يعقل أن يملك أيّ فرد، مهما علا شأنه، ذاك القدر من النفوذ والتأثير على سياسة دولة مؤسسات عظمى بحجم الولايات المتحدة؟ وهل كُلّف بولتون، وما يمثله من امتدادات، جرّ الرئيس ترامب لتلك النهاية المفزعة للسياسة الأميركية. بالطبع بولتون يتصرف بوحي تام من مؤسسة كاملة من الأجهزة السياسية والعسكرية والاستخباراتية وكذلك من مسؤولين لم يبرحوا عقلية «الحرب الباردة» ولا يتوانون عن استعراض العضلات طمعاً في طلب تأييد الجمهور الأميركي وسردية فرادية بلاده و»تزعّمها» للعالم.

تلك المؤسسة وبعض عقلائها ينطلقون من مسلمة استمرار الحرب «.. التي لا يُقصد منها أن تنتصر بل أن تستمر»، كما وصفها بعض الخبراء الاستراتيجيين مما يعزز فرضية ما ذهبنا إليه أعلاه بأنها تطمح لاستمرار الوضع الراهن بما فيه «التعايش مع كوريا الشمالية واسلحتها النووية»، كي توفر الأرضية لاستمرار ابتزازها للدول الإقليمية بشكل رئيس.

هانوي

عند الساعة الثانية بعد الظهر، بتوقيت هانوي، عقد الرئيس ترامب مؤتمراً صحافياً على عجل ليفسّر «أسباب انهيار» لقاء القمة محمّلاً المسؤولية لكوريا الشمالية لاصرارها على «رفع تامّ لنظام العقوبات». وأضاف بمرارة أنّ الفريق الأميركي المرافق له «أعدّ وثائق للتوقيع من قبل الطرفين». بل أبلغ المكتب الإعلامي للبيت الأبيض الصحافيين الأميركيين موعداً محدّداً «لاحتفالية التوقيع»، دون التطرق لطبيعة بنود الاتفاقية التي لم تر النور.

وفد كوريا الشمالية، ممثلاً بوزير الخارجية ري يونغ هو، سارع بعقد مؤتمر صحافي مباشرة بعد الرئيس ترامب مما يوحي الأهمية البالغة التي «اضطرته» لعقد مؤتمرٍ موازٍ لعرض وجهة نظره على الفور مبيّناً أنّ بلاده «عرضت على الجانب الأميركي عزمها على تقنين مبادرتها بتاريخ 20 نيسان 2018 لوقف التجارب على الصواريخ الباليستية طويلة المدى والمركبات النووية».

يشار إلى أنّ سلسلة المفاوضات الثنائية السابقة تمحورت حول المنشأة النووية في «يونغ بيون التي تحوي بداخلها مفاعلاً نووياً يعمل بغاز الغرافيت بطاقة 5 ميغاوات، ومعدات الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم».

أما مراكز الأبحاث في الموقع المُشار إليه ومنشآت أخرى فهي باقية ولم تدرج ضمن العرض الكوري أو إثارتها من الطرف الأميركي.

وزير خارجية كوريا الشمالية مضى موضحاً في لقائه الصحافي في هانوي قائلاً إنّ بلاده «كان لديها مطالب متسلسلة غاية في الوضوح» أبلغتها مراراً للجانب الأميركي أبرزها «رفع نظام العقوبات الخمسة الأخيرة من قبل مجلس الأمن الدولي مقابل تفكيك منشآت الإنتاج النووية في منطقة يونغ بيون».

مجموعة بلاوشير فَنْد وخبراء أميركيين أخرين أوضحوا لاحقاً أنّ الجانب الكوري الشمالي مضى قدُماً بناء على «وعود» أميركية برفع نظام العقوبات، ومرحباً باتفاق ينهي حالة الحرب في شبه الجزيرة الكورية عارضاً استعداده لافتتاح مكتب أميركي للتنسيق في العاصمة بيونغ يانغ. ولعلّ هذا الأمر ما دفع اصطفاف مسؤولة المجموعة وآخرين إلى «تصديق رواية كوريا الشمالية».

مركز الدراسات الأميركية والعربية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى