وداد طه في «حرير مريم»: هذا العالم لا يسعنا!
مهدي زلزلي
تتوزَّع رواية «حرير مريم» للروائيَّة والقاصَّة الفلسطينيَّة وداد طه، الصَّادرة عن دار «الفارابي» في بيروت، على فصول أربعة – وفقاً لمقتضيات الزمان والمكان – معنوَنة «هناك»، «هنا»، «الآن»، و«الآتي»، ولكن هذا لا يغيّر في واقع الأمر كثيراً، فهذه رواية لا تُقرأ إلا دفعةً واحدة، مع كلّ تلك البساطة والسلاسة الآسرة، والتجديد والتجريب في آنٍ واحد، دون أن نغفل طبعاً عن دور التشويق والمفارقات الصَّادمة والبالغة الغرابة أحياناً.
وتدور الرواية حول لمى، الشابَّة اللبنانيَّة المفجوعة بعريسها وعمّها وعائلته، ومن قبلهم جميعاً بوالدها المتوفى إبَّان الحرب الأهليَّة، والتي تلتقي صدفةً بمريم مرعي، الخيَّاطة الفلسطينيَّة العجوز، التي تروي لها بدورها مأساة عائلتها المستمرَّة والتي بدأت في «ميعار» في العام 1948 ولم تنتهِ في مخيَّم تلّ الزعتر على أطراف بيروت الشرقيَّة في العام 1976. تكتشف لمى لاحقاً أنَّ والدها مسؤول بصورة مباشرة عمَّا لحق بعائلة مريم وأنَّه كان ناشطاً في إحدى الميليشيات التي أوغلت في دماء الفلسطينيين إبَّان الحرب، وأنَّ مريم التي ستزور قبرها في الختام، وتستمع إلى حكاية عائلتها كاملة من حارس المقبرة فتأتي متوافقة مع ما سمعته منها، كانت شخصيَّة حقيقيَّة، ولكنها لم تلتقِ بها سوى في الخيال «ما كانت غير روحٍ سكنتها، قلبٌ ناداها من الماضي ليفتح عينيها على الحقيقة».
ولا يمكن للمرء الادّعاء أنَّه منشغل بفلسطين ومسكون بها، دون أن يكون محور كتابته ذلك التاريخ المشؤوم الذي شكَّل علامة فارقة وانعطافة بين زمنين متناقضين: عام النكبة. هكذا يطرح بهاء طاهر في «شرق النخيل» قضيَّة «بيع الأرض إلى اليهود» على لسان عصام، طالب الهندسة الفلسطينيّ الخجول، الذي يروي مرغماً، بغضبٍ ساخر، كيف «باع» جدّه الشهيد، ومن بعده والده الشهيد أيضاً، أرضهم في حلحول! وفي «جفرا لغاية في نفسها» يروي مروان عبد العال كيف كان الذين غادروا مرغمين على المفاضلة بين خيارين أحلاهما مرّ، عبر التضحية بالأرض أو بالعرض، إذ لم يكن الحفاظ عليهما معاً سهلاً.
وفي «حرير مريم» تروي وداد طه مجدَّداً، وبصورة موجعة، حكاية التغريبة الفلسطينيَّة تلك، فتنقلك إلى ميعار، ومنها إلى سخنين، ثم كابول، فشعب، وصولاً إلى الحدود مع لبنان، تبتسم وقد عرفْتَ للتوّ أصل عائلة «الميعاري» التي يحملها عدد كبير من فلسطينيي لبنان. تنتقل فوراً، مدفوعاً بالفضول، إلى فلسطين التي تزورها كلّ يوم مستعيناً بخرائط «غوغل» وصور الأقمار الصناعية، لتعاين مدى التغيير الذي لحق بهذه الأماكن بعد مرور 70 عاماً هي عمر النكبة، تستوقفكَ كتابات بالعبريَّة على الجدران، تفكر أنها ستُمحى في يومٍ قريب دون شك، طالما وُجِدَ رواة كَمريم وسامعات مثل لمى يحفظنَ الحكاية الحقيقيَّة من الاندثار، ويمزّقن أسطورة المجتمع الصهيونيّ المثاليّ والمسالم.
ولكن لمى هذه تمتلك فضولاً أكبر من ذاك الذي يمتلكه القارئ، يجعلها تستعجل قليلاً فتقرّر زيارة القدس وهي تحت الاحتلال لمَّا تزل، مستعينةً بجواز سفرها الفرنسيّ، حيث تلتقي بحفيد للحاج مرعي والد مريم يُدعى يحيى قرَّر زيارة المدينة هو الآخر بجواز سفره الأميركيّ. لا تعلم إن كانت هذه مجرّد حكاية فرضتها ضرورات السَّرد أم أنَّها تستبطن موقفاً للكاتبة يوافق ربما على زيارة الأراضي الواقعة تحت الاحتلال، بتأشيرة إسرائيليَّة، ويرفض اعتبار ذلك شكلاً صريحاً من أشكال التطبيع!
ويبلغ الألم الفلسطينيّ في الرواية ذروته حين يكتشف أحمد نجل مريم الأكبر أنَّ روزماري التي تزوَّجها في ألمانيا ليست سوى شقيقته زهرة التي فُقِدَت طفلةً على أحد المعابر في بيروت حين سلم الأب أمره لله ووضعها على كتف رجل غريب كي تحميه طفولتها من نيران المسلحين، ولا يكتشف أحمد ذلك إلا بعد وفاة روزماري – زهرة، على لسان الرجل الألماني الذي تبنّاها مع زوجته وتكفل بتربيتها حين وصلت إلى تلك البلاد: «لقد تزوَّجتُ زهرة يا أمي.. أيّ ذنب اقترفناه كي تعاقبنا الحياة هكذا؟ من بين كل نساء العالم تزوَّجت أختي.. خذيني يا أماه، هذا العالم لا يسعنا».
وقد وُفِّقَت الكاتبة إلى اختيار العنوان، إذ يحيلك اسم «مريم» رأساً إلى حكواتيَّة مفترضة تعِدك بالتشويق، ولعلَّ ذلك نابعٌ من استخدامه روائيَّاً في سياقات مماثلة: «مريم الحكايا» لعلويّة صبح، و«نزوح مريم» لمحمد حسن الجاسم، و«كلام مريم» لمحمود شقير، وغيرها. كما وُفِّقَت في اختيارها التحرّر من الأغلفة التقليديَّة التي طبعت إصدارات دار الفارابي زمناً طويلاً مستعينة بلوحة معبّرة ودالة على طبيعة النصّ للفنانة منال ديب، أمَّا الإهداء فقد كان موجزاً ومفتاحاً لسؤال عن مساحة كلّ من الواقع والمتخيَّل في الرواية، فقد كتبت وداد: «إلى مَن يغزلون بصبرهم حيواتنا، إلى روح جدَّتي آمنة»، فهل «آمنة» في الواقع هي «مريم» في الرواية؟