أحزاب أقصى اليمين الأوروبي إلى الواجهة دائماً!
يارا بليبل
طغت على المداخل التقليدية لتفسير صعود اليمين المتطرف في أوروبا التفسيرات الاقتصادية والسياسية مع قليل اهتمام بالأبعاد الثقافية، بحيث لم يتمّ الربط بين الإسلاموفوبيا وصعود اليمين المتطرف الأوروبي إلا في حدود كون هذا الخطاب المعادي للإسلام وسيلة للتعبئة وكسب أصوات الناخبين مستغلاً الإحباط الاقتصادي للمواطن الأوروبي من المهاجرين والإحباط السياسي من السياسات الحكومية تجاههم.
جادل كاس ميد في أنّ الأسس الايديولوجية المشتركة لليمين المتطرف الأوروبي هي أربعة: القومية او الانتماء للوطن، العداء للأجنبي، حفظ القانون والنظام، والنظرة الشوفينية للرفاهية بحيث على الدولة ان تضمن من خلال سياساتها الاجتماعية رفاهية أفراد الأمة دون الأجانب.
غير أنّ أكثر المقاربات التي حظيت بالإجماع حول الخصائص المشتركة لأحزاب اليمين هي التي قدّمها مايندرت فينيما ، بحيث ينظر إلى هذه الأحزاب كنسق فكري موحد، من خلال برنامجها المعادي للهجرة والمهاجرين، لذا يطلق عليها أحزاب ضدّ الهجرة.
مما ذُكر يظهر انسجام حذر بين من تناولوا موضوع أحزاب أقصى اليمين لناحية الخصائص، بحيث تصوّر المهاجرين كأنهم مشكلة في أربع صور مختلفة كتهديد للهوية الإثنو وطنية، كسبب رئيسي للبطالة وللجريمة ومظاهر أخرى لـ لا أمن الاجتماعي، وكمستغلين بسوء لما توفره دولة الرفاه.
دون الاتفاق على تعريف جامع لليمين الراديكالي، فيتمّ استخدام مفاهيم يُراد منها الإشارة إلى المفهوم موضوع البحث، إلّا أنها في المعنى الحقيقي تعبّر عن نسق فكري متمايز، مثل مفهوم المحافظين الجدد و مفهوم اليمين الجديد ، أما الأولى تستعمل للدلالة إلى من يحملون مشروعاً تدخلياً في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية يرتبط فيه الاعتقاد الديني بالسياسي، والثانية تشير إلى متبني أفكار الليبرالية المتطرفة المدافعة عن تحييد تامّ لدور الدولة في الاقتصاد مع خصخصة كثيفة وسوق مفتوحة.
في الواقع لقد شكّل فوز دونالد ترامب محطة مفصليّة بالنسبة للتيارات اليمينية في الدول الغربية، إلى الحدّ الذي بات يُنظر إلى ضيق المنطقة الفاصلة بين يمين الوسط وأقصى اليمين، ما يشي بإعادة صياغة السرديات ويوحي بأننا أمام تصوير ثابت للمدركات بين الأنا والآخر سوى من تعويض فزاعة بفزاعة من خلال تعويض كره اليهودي بالمسلم.
لقد أعادت مجزرة نيوزيلندا الحديث عن مآل الواقع الغربي، حيث دفعت مرة جديدة بأحزاب أقصى اليمين إلى الواجهة وضرورة الأخذ بها من زاوية التهديد اللاحق بالأنظمة السياسية الأوروبية التي تميّزت غالباً بالاستقرار. فليست هي بالظاهرة الهامشية، بل باتت طرفاً فاعلاً سياسياً يتزايد تأثيره في صياغة الرأي العام الأوروبي.
حيث مثّلت انتخابات المجلس التشريعي الاتحادي في المانيا البوندستاغ المشهد الأكثر زخماً عام 2017 مع دخول حزب البديل من أجل المانيا ، حزب من أقصى اليمين ، كأول مرة منذ عام 1960، استطاع هذا الحزب الوليد الحصول على 88 مقعد بنسبة 13 من مقاعد البوندستاغ.
وفي فرنسا من العام نفسه، نجحت ماري لو بين، رئيسة حزب الجبهة الوطنية ، للمرة الثانية في تاريخ الحزب من تخطي العتبة الرئاسية المطلوبة لتنافس الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون في الجولة الثانية من الاستحقاق، وعلى الرغم من فشلها في تسلم سدة الرئاسة إلا أنّ تساؤلات تطرح حول حظوظها لاحقاً، خاصةً بعد أن قدّم ماكرون نموذجاً دون المستوى المطلوب بالإضافة للبعد الداخلي لحركة السترات الصفر التي تغزو المشهد السياسي الفرنسي منذ ما يقارب الأربعة أشهر.
الأمر تكرّر في النمسا، مع وصول حزب الحرية النمساوي 26 من الأصوات، ونجح فى الوصول إلى الحكم ضمن ائتلاف مع حزب المحافظين.
كما في هولندا، حلّ حزب الحرية ، برئاسة جيرت فيلدرز، فى المركز الثاني فى الانتخابات العامة عام 2018، وبات ثاني أكبر قوة فى البرلمان لحصوله على 20 مقعداً.
ومن الجدير الإضاءة على ما بدأت حكومات اليمين الأوروبى والأحزاب بإعداده داخل صفوفها لانتخابات البرلمان الأوروبى هذا العام فى مواجهة المعسكر التقليدي، الذى ربما بات الأضعف جراء الكثير من العواصف السياسية التى ضربت باريس وبرلين منذ عام 2018، فضلاً عن بريكست.
وفى سبيل ذلك، أطلق اليمين الأوروبي، تتزعّمه إيطاليا وبولندا، استراتيجيته للسيطرة على المؤسسات الأوروبية معلناً إنشاء ما يسمّى محور مناهضة الهجرة. ورحب رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، بإنشاء محور مناهض للهجرة فى أوروبا حيث يمكن لزعماء الاتحاد الأوروبى اليمينيّين المتشدّدين ذوي التوجهات المتقاربة ان يوحدوا صفوفهم لإدارة الاتحاد.
في سياق متصل، لم تكن مجزرة كرايستشرش أولى هجمات اليمين المتطرف ، ففي تموز عام 2011 حدث تفجير قرب مقرّ رئيس الحكومة في العاصمة النرويجية أوسلو وإطلاق نار على مخيم صيفي لاتحاد العمال الشباب اليساري في جزيرة اوتويا، وفي أيلول 2016 تمّ تفجير عبوة ناسفة في مسجد بمدينة دريسدن الألمانية، كما شهدت العاصمة البريطانية عملية دهس لمصلّين قرب مسجد في لندن في حزيران 2017، العام نفسه توّج شهره الأول بهجومين الأول في الولايات المتحدة حيث أحرق مسجد في بلدة فكتوريا بولاية تكساس والثاني في كندا التي شهدت إطلاق نار على مسجد بمقاطعة كيبيك.
من الواضح إذاً أنّ صعود أحزاب أقصى اليمين لا يعبَّر عنه في صناديق الاقتراع فقط، بل وصلت حدّ الممارسة العنفية للفرد، ما يضعنا أمام طرح البعد الحضاري للظاهرة الذي ناقشه صامويل هانتنغتون حين اعتبر أنّ تحالفاً ممكناً بين الإسلام والكونفوشية يمكن أن يهدّد المصالح والنفوذ والهوية الغربية.
بالرغم من الانتقادات التي طالت النظرية إلا أنها يمكن أن تزوّدنا باستبصار مفيد في فهم صعود أقصى اليمين في ظلّ الانفتاح الاقتصادي والثقافي العالمي على الآخر المفروض جراء العولمة.