بوتين لترامب: شكراً لـ «الشرق الأوسط الجديد»… الروسي
د. أحمد الزين
مايك بومبيو في جولة شرق أوسطيّة، من الكويت، إلى الكيان الإسرائيلي الغاصب، ومن ثمّ إلى لبنان، هذه الزّيارة الّتي يعرف غالبيّة اللبنانيين أهدافها الرّامية حكماً إلى تحقيق المصالح الإسرائيليّة.
وفي المؤتمر الصّحافي الّذي عقده مع وزير الخارجيّة جبران باسيل بدا واضحاً أنّ الضّغط على حزب الله هو الهدف الأهمّ من هذه الزّيارة. قال الرّجل ما لديه حول رؤيته لحزب الله كـ «حزب إرهابي يفرض على اللبنانيين خياراته منذ ما يزيد على الثلاثين عاماً، مانعاً اللبنانيين من تحقيق أحلامهم، يحارب في سورية والعراق واليمن فيقتل النّساء والأطفال»! مضيفاً «أنّ وصول هذا الحزب إلى مجلس النواب إنّما جاء بطرق غير شرعيّة كتخويف النّاخبين وإغداق الوعود السياسيّة»، ومعتبراً «أنّ كلّ ما يقوم به حزب الله إنّما يصبّ في غير صالح الدّولة اللبنانيّة»! معرّجاً في معرض كلامه إلى تفجير مقرّ المارينز في بيروت عام 1983، ذلك التّفجير الّذي أجبر الولايات المتّحدة وفرنسا على الانسحاب من لبنان مطلع 1984. وقد بدا واضحاً من خلال طلبه عدم السّماح للصحافيين بطرح الأسئلة أنّه لا يريد نقاشاً في أمور هو يعرف أنّه لا يستطيع الرّدّ عليها بالمنطق، وبالتّالي فهو إنّما جاء إلى لبنان بعقليّة المتعجرف الّذي يطرح أفكاره وليس أمام الآخرين إلاّ أن يتبنّوها. كذلك فإنّه بعد اجتماعه بسياسيين من بينهم سعد الحريري أدلى ببيان مشابه قال فيه إنّ «الضّغط الّذي نمارسه على إيران واضح، إنّه يستهدف قطع التّمويل عن الإرهابيين، وهو يحقّق نجاحاً. نعتقد أنّ عملنا يقيّد أنشطة حزب الله بالفعل».
بومبيو جاء ليطلب من لبنان أن يتنازل لـ «إسرائيل» عن الكتل 8 و9 و10 وأن يتوقّف عن المطالبة برسم حدوده المائيّة مع «إسرائيل»، وأن يعمل على إخراج حزب الله من الحكومة، في تجاهل واضح وسافر لما يمثّله حزب الله من ثقل كونه يحظى بدعم ما يقارب من نصف اللبنانيين بين سنّة وشيعة ودروز ومسيحيين.
ولأنّ اللبنانيين قد باتوا يعرفون مآلات الطّروحات الأميركيّة، فقد جاء الرّدّ على لسان وزير الخارجيّة اللبناني جبران باسيل واضحاً وشافياً، فأوضح أمام بومبيو أنّ حزب الله حزب لبناني يمثّل شريحة وازنة من اللبنانيين، الّذين لا يرونه حزباً إرهابيّاً، كذلك طرح موضوع العودة الآمنة للنازحين السّوريين رافضاً فكرة العودة الطّوعيّة، وقد سمع بومبيو كلاماً مشابهاً من الرّئيسين عون وبرّي و لكن بنبرة أكثر حدية كما رشح عن اللقاءات.
ولعلّ أهمّ ما قيل حول زيارة بومبيو إلى لبنان هو أنّ بومبيو لم يتصرّف كوزير خارجيّة دولة عظمى هي الولايات المتّحدة، بل بدا مجرّد ناطق باسم الحكومة «الإسرائيليّة» ولهذا الأمر أسبابه الكثيرة الّتي يصعب تحليلها في أسطر قليلة لكنّنا نستطيع الإشارة هنا إلى أنّ أحد الأسباب هو أنّ أميركا لا تملك مشروعها الخاصّ في الشّرق الأوسط لذلك فإنّها لا تدعم المشروع «الإسرائيلي» فحسب بل تتبنّاه تبنّياً كاملاً، ولعلّ تغريدات بومبيو طوال فترة زيارته الشّرق أوسطيّة تؤكّد ذلك. حتّى أنّنا لا نغالي إذا قلنا إنّ «إسرائيل» بحدّ ذاتها هي المشروع الأميركي الّذي ترى أنّها من خلاله تسيطر على المنطقة وتتحكّم بمواردها، وهذا ليس بجديد ففي عام 1983 وبعد تفجير مقرّ المارينز الّذي أودى بحياة 241 أميركيّ كان جلّهم من المارينز تساءل الرّئيس الأميركي في ذلك الحين رونالد ريغان قائلاً: «إذا انسحبنا من لبنان، ماذا سيكون مصير إسرائيل؟»
من هنا يمكننا أن نفهم أصل هذا العداء الأميركي لحزب الله من حيث كونه أداة استطاعت ان تهزم المشاريع الأميركيّة «الإسرائيليّة» في أكثر من محطّة لعلّ ابرزها كان تحرير الجنوب اللبناني عام 2000، هذا التّحرير الّذي بدا واضحاً أنّه لا يمكن لـ «إسرائيل» وأميركا هضمه لأنّه سيشكّل محفّزاً لكلّ القوى الحيّة في منطقتنا كي تحذو حذو لبنان في مقاومته للاحتلال، ولأنّه قد كسر هيبة الجيش «الإسرائيلي» الّذي رُوّج له كجيش لا يمكن قهره، فجاءت مقولة السّيّد حسن لتقول إنّ هذا الجيش ودولته هما أوهن من بيت العنكبوت.
وفي هذا الإطار جاءت حرب 2006 كنتيجة طبيعيّة لتحرير الجنوب، إذ إنّه لم يكن أمام «إسرائيل» سوى أن تكسر هذه المقاومة، لكنّ حساب الحقل لم يأت موافقاً لحساب البيدر فكانت الهزيمة الثانية لـ «إسرائيل» الّتي لم تستطع اجتياح الجنوب كما فعلت عام 1982 وكذلك لم تستطع أن تبعد حزب الله عن بيئته الحاضنة.
وفي لبنان تبدو الأمور معقّدة وصعبة، فهو يعاني من أزمات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وديموغرافيّة وبيئيّة. فهل يمكنه أن يتحمّل ضغط العقوبات الأميركيّة عليه؟
فعلى المستوى الاقتصادي يعيش لبنان فترة لم يمرّ بمثلها في أقسى الحروب الّتي عاشها، والحقيقة أنّه وإن كانت غالبيّة النّاس تردّ التّدهور الاقتصادي اللبناني إلى الفساد المستشري لدى نخبه إلاّ أنّ هنالك أسباباً أخرى تقف وراء ذلك دون شكّ. وفي حال أعلنت أميركا حرباً اقتصاديّة عليه فإنّ البدائل اللبنانيّة ستكون محدودة ولعلّ من ضمنها الاستعانة بالصناعة الإيرانيّة للتغلّب على الضّغوط الاقتصاديّة الأميركيّة.
بالتوازي مع الوضع الاقتصادي الصعب، فإنّه لا يخفى على الإنسان العادي ما يعيشه لبنان من انقسام سياسي بين تيارين يوالي أحدهما المحور الأميركي السّعودي، بينما يدور التيار الثاني في الفلك السوري الإيراني، ولعلّ قسما كبيراً من اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم يعون خطورة الدّور الأميركي المنسجم أو المتماهي مع الدّور «الإسرائيلي» على لبنان، وقد يدفع هؤلاء نحو التّحرّر من نفوذ أميركا وحلفائها، إلاّ في حال اتّخذت السّعوديّة خطوات تجاه لبنان تعمل من خلالها على ضخّ دماء الحياة في الاقتصاد اللبناني المتهالك، فهل تقدر السّعوديّة على فعل ذلك في ظلّ ما تتعرّض له هي نفسها من ابتزاز واستنزاف أميركي لمقدّراتها ومواردها؟ وفي حال استطاعت، كيف تضمن أنّ حزب الله وحلفاءه المناوئين لسياساتها في لبنان لن يستفيدوا من الدّعم الّذي ستقدّمه؟
واقع الحال أنّ العقوبات الأميركيّة على إيران كان لها تاثير أيضاً على الاقتصاد اللبناني إذ قلّصت إيران دعمها للحزب ممّا أدخله في حالة من التّقشّف حدّت من مستوى منسوب ما يضخّه عبر التّقديمات والحوافز للمنتمين إليه من أموال تدعم بشكل أو بآخر الاقتصاد اللبناني، لكنّ ذلك لا يعني أبداً أن يرضخ لبنان للضّغوط الأميركيّة بل على العكس من ذلك فإنّ الصّمود في وجه المشاريع الأميركيّة سيمنح لبنان على المدى البعيد حصانة ضدّ التّحدّيات الّتي يمكن أن يواجهها الرّاضخون للسياسة الأميركيّة في المنطقة، وقد شاهد لبنان وغيره من الدّول بأمّ العين كيف تتخلّى الولايات المتّحدة عن أولئك الّذين خدموا مصالحها وقد تنقضّ عليهم في حال وجدت أنّ مصلحتها تقتضي ذلك مثلما فعلت مع صدّام في العراق، والقذّافي في ليبيا، ومن يدري لعلّ محمّد بن سلمان يلقى المصير ذاته في السعودية وما ذلك عن الأميركيين ببعيد.
ويتساءل المراقبون في ظلّ التقارب السعودي الروسي الحديث، هل تتجه المملكة العربية السعودية جزئياً الى الحضن الروسي لأول مرة منذ نشأة المملكة؟
بالنّسبة للبنان تبدو البدائل الاقتصاديّة محدودة، فالسعوديّة في حال أقدمت على دعم الاقتصاد اللبناني مع ما ذكرناه سابقاً من الموانع الّتي تحول دون ذلك فإنّها ستفرض شروطاً مماثلة للشروط الأميركيّة من طرد للنّفوذ الإيراني ومن يدعمه في لبنان، فهل يمكن تحقيق هذا الحلم السعودي المستحيل؟ وما هي الخيارات المتبقّية أمام لبنان؟
قد تكون إيران وروسيا والصين هي الخيارات الأقرب، فإيران قادرة على تقديم السلع التي يحتاجها لبنان بكلفة قليلة ممّا يساهم في خفض النّفقات، ويمكن لروسيا أن تقوم بدعم الجيش اللبناني وتسليحه في حال لم يفعل الغرب ذلك، كذلك يمكن أن تلعب الصين دوراً إيجابيّاً في لبنان الذي يقدر أن يكون طريق عبورها إلى الأسواق السوريّة والعراقيّة والأردنيّة. وفي حال لم يتّخذ لبنان القرارات المناسبة في هذا الصّدد فإنّ عليه أن يستعدّ للانضمام إلى قائمة الدّول الأكثر فقراً على مستوى العالم. فهل تكون نتيجة الضّغوط الأميركيّة على لبنان أن يرتمي هو أيضاً في الحضن الرّوسي. من خلال زيارة الرئيس ميشال عون الى موسكو يبدو أنّ لبنان يتجه في هذا الاتجاه. فلذلك ومن البوابة اللبنانية قالت روسيا شكراً أميركا.
من إيران إلى العراق إلى سورية إلى لبنان امتدّ تحالف مناهض للمشروع الأميركي «الإسرائيلي»، تحالف يلقى دعماً روسيّاً مباشراً وإنْ كانت روسيا لا تعتبر نفسها جزءاً منه. وأميركا تشعر أنّ عليها أن تكسر حلقات هذا المحور كي تقدر على فرض رؤيتها للمنطقة انطلاقاً ممّا أطلق عليه اسم صفقة القرن وانتهاء بما لا يدري أحد أين يمكن أن يكون الحدّ الّذي ستقف عنده أميركا في مقاربتها الظّالمة لمنطقة الشّرق الأوسط. فهل تنجح؟
اما في سورية فقد واجه المشروع الأميركي الفشل، فرغم كلّ ما بذله الغرب بقيادة أميركا لتحويل سورية إلى دولة فاشلة على غرار ما حصل في ليبيا، بقيت الدّولة السّوريّة ثابتة واستطاعت أن تستعيد غالبيّة الأراضي الّتي سبق للجماعات المسلّحة أن استولت عليها، كذلك استطاعت سورية رغم كلّ شيء، أن تحافظ على تحالفاتها مع القوى الّتي ساندتها في حربها على الإرهاب ونعني بها روسيا وإيران وحزب الله. هكذا فإنّ الولايات المتّحدة في سعيها لتدمير سورية لم تترك لها خياراً سوى الارتماء أكثر وأكثر في الحضن الروسي الإيراني، وقد استطاعت هاتان الدّولتان فرض وقائع ميدانيّة لا يمكن تجاهلها. فلذلك و من البوابة السورية قالت روسيا شكراً أميركا.
إنّ الأحداث الّتي توالت على الشّرق الأوسط انطلاقاً من الرّبيع العربي المزعوم وفشل الخطط الأميركيّة الهادفة إلى تقسيم كلّ من العراق وسورية قد قاد من حيث درت أميركا أو لم تدر إلى دور روسي متنام في المنطقة.
ويؤكد المحللون السياسيون أنّ سنة 2019 ستكون سنة مصيرية لتكريس زعيم للشرق الأوسط الجديد. فهل تنتهي المنافسة الرّوسيّة الأميركيّة على النّفوذ في الشّرق الأوسط إلى مكاسب لروسيا على حساب المصالح الأميركيّة.
ختاماً، لا يستعني إلا أن استحضر فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين بابتسامته الساخرة يقول لدونالد ترامب شكراً لغبائك الذي قدّم خدمة لروسيا أكثر من جميع الأجهزة المخابراتية والعسكرية والأمنية الروسية مجتمعة.