إنّه الزمن الصهيوني… وعرّابه ترامب!
صبحي غندور
بدأ تأثير الولايات المتّحدة يظهر جليّاً في العالم العربي منذ بداية القرن العشرين، بعد ثورة صناعة السيارات والطائرات وبعد اكتشاف الحاجة لنفط الجزيرة العربية، عقب الحرب العالمية الأولى التي ساهمت فيها أميركا، ثمّ من خلال الامتداد الأميركي الى مناطق النفوذ البريطاني والفرنسي عقب الحرب العالمية الثانية. أمّا التأثير الأميركي الفعّال في المنطقة فقد بدأ عملياً بعد انطلاقة الحرب الباردة بين موسكو واشنطن، وتنافس المعسكرين على وراثة النفوذ الأوروبي الذي اضمحلّ نتيجة الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً بعد حرب السويس في العام 1956 وانتصار مصر عبد الناصر على العدوان الثلاثي: البريطاني/ الفرنسي/ الإسرائيلي، والذي وقف ضدّه الرئيس الأميركي أيزنهاور.
وقد كان قيام كيان «إسرائيل» عام 1948، وتسارع واشنطن وموسكو للاعتراف به، هو المحطّة البارزة في تاريخ دخول واشنطن على مراحل الصراع العربي/ الصهيوني. وكانت حرب 1967 ذروة التصعيد الأميركي في التدخّل المباشر لصالح «إسرائيل» ضدّ العرب، حيث ساهمت واشنطن آنذاك في دعم العدوان «الإسرائيلي» بعد أن فشلت أميركا في مرحلة ما قبل حرب 1967 في ضغوطها السياسية والاقتصادية على مصر عبد الناصر.
في العام 1978، جرت معاهدات «كامب دافيد» بين مصر و«إسرائيل» كثمرة لجهود هنري كسينجر في ترسيخ سياسة الخطوة خطوة ، والتي حجّمت دور مصر خطوة خطوة رغم النتائج العظيمة لحرب 1973 والتي جرت بتنسيق مصري/ سوري وبدعمٍ عربي كبير.
ثمّ بدأ الانهيار يحدث عربياً أيضاً خطوة خطوة حول أكثر من قضية وفي أكثر من مكان وزمان، ونجحت واشنطن بعد ذلك في خطوات «عرْبَنة الصراعات» إضافةً لانضمام الأردن و«منظمّة التحرير الفلسطينية» إلى توقيع المعاهدات الثنائية مع «إسرائيل» قبل إنهاء احتلالها لكلّ الأراضي العربية أو استعادة حقوق الشعب الفلسطيني.
ورغم الجريمة الكبرى التي ارتكبتها إدارة بوش الابن في احتلال العراق بالعام 2003 وتدمير مقوّمات الدولة فيه، فإنّها لم تخرج في مواقفها عن السياسة الأميركية
التي جرى اتّباعها منذ حرب العام 1967 بشأن القضية الفلسطينية، خاصّةً لجهة رفض الإستيطان في الأراضي المحتلّة وعدم المسّ بموضوع مدينة القدس أو التقييد على الدعم الأميركي للمنظّمات الدولية الراعية لشؤون اللاجئين الفلسطينيين.
الآن، للأسف، لم يعد الصراع العربي/ الصهيوني هو قضية العرب الأولى، ولا همّهم القومي المشترك، بل إنّ القضية الفلسطينية برمّتها قد تهمّشت عربياً ودولياً، فلا أحد يضغط على «إسرائيل» الآن لتحقيق المطالبة الدولية بإقامة دولة فلسطينية مستقلّة ذات سيادة على حدود العام 1967، عاصمتها القدس، ولا طبعاً بإزالة المستوطنات أو حتّى بوقف الاستيطان، ولا بحلٍّ عادلٍ لقضية اللاجئين، وهذه هي القضايا التي دار التفاوض في السنوات الماضية بشأنها، بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين» برعاية أميركية، منذ توقيع «اتفاق أوسلو» في العام 1993.
لكن ما هو أسوأ على صعيد السياسة الأميركية المتّبعة على مدار الصراع العربي/ الصهيوني هو أنّ «إسرائيل» وجدت في «البيت الأبيض» نصيراً لها، هو الأفضل المقارنة مع كلّ الرؤساء الأميركيين الذين سبقوا دونالد ترامب في حكم الولايات المتحدة، مخالفاً ليس فقط قرارات ومرجعيات دولية بل أيضاً سياسات أميركية لأكثر من خمسين عاماً. فترامب اعترف بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، وفرض عقوبات على السلطة الفلسطينية وعلى المؤسّسات الدولية الإنسانية التي ترعى شؤون اللاجئين الفلسطينيين، ثمّ قام مؤخّراً ببسط «الشرعية الأميركية» على الاحتلال «الإسرائيلي» لهضبة الجولان السورية.
وترامب ينسجم تماماً في مواقفه مع سياسات نتنياهو على مختلف الأصعدة، بما فيها الموقف التصعيدي المتواصل ضدّ إيران، والذي ينذر بتطوّراتٍ خطيرة في المنطقة.
إنّ «إسرائيل» تعمل منذ سنوات، خاصّةً منذ وصول نتنياهو للحكم في العام 2009، على أن تكون أولويّة الصراعات بالمنطقة هي مع خصومها لا معها، بحيث تتحقّق عدّة أهداف «إسرائيلية» مهمّة جدّاً لكلّ الإستراتيجية والمصالح الصهيونية في المنطقة والعالم.
فالمراهنة «الإسرائيلية» هي على تهميش الملف الفلسطيني، وعلى كسب الوقت لمزيدٍ من الإستيطان في القدس والضفّة الغربية والجولان، وعلى تفجير صراعاتٍ عربية داخلية، بأسماء وحجج مختلفة، تؤدّي إلى تفتيت الكيانات العربية الراهنة وتدمير الجيوش العربية الكبرى، وعلى إقامة تطبيع سياسي وأمني واقتصادي مع الدول العربية والإسلامية. فتلك الاستراتيجية ستجعل من «إسرائيل» قوةً إقليمية ودولية كبرى في عصرٍ بدأ يتّسم بالتعدّدية القطبية، بحيث تكون «إسرائيل» عندها قادرةً على فرض «شرق أوسط جديد» يسمح لها بتحقيق الهيمنة الأمنية والسياسية والاقتصادية على كلّ المنطقة، بعدما تضع الحروب الإقليمية والأهلية أوزارها.
إنّ الفتن الداخلية العربية الجارية الآن في أكثر من مكان، لا يمكن عزلها عن الصراع العربي/ الصهيوني على مدار مائة عام. إذ لم يكن ممكناً قبل قرنٍ من الزمن
تنفيذ «وعد بلفور» بإنشاء دولة «إسرائيل» دون تقطيع الجسم العربي والأرض العربية، حيث تزامن الوعد البريطاني/ الصهيوني مع الاتفاق البريطاني/ الفرنسي المعروف باسم «سايكس- بيكو» والذي أوجد كياناتٍ عربية متصارعة على الحدود، وضامنة للمصالح الغربية، ومسهّلة للنكبة الكبرى في فلسطين. فلا فصل إطلاقاً بين معارك التحرّر الوطني من المستعمر الغربي التي جرت في البلاد العربية وبين الصراع العربي/ الصهيوني. ولا فصل أيضاً بين أيّ سعي لاتّحاد أو تكامل عربي، وبين تأثيرات ذلك على الصراع العربي/ الصهيوني.
وما حدث على الأرض العربية في السنوات القليلة الماضية هو تتويجٌ للحروب التي خاضتها الحركة الصهيونية على مدار المائة سنة الماضية. فالاعتراف الدولي بـ «إسرائيل»، ثمّ الاعتراف المصري/ الأردني/ الفلسطيني بها، بعد معاهدات «كامب ديفيد» و«أوسلو» و«وادي عربة»، كلّها كانت غير كافية لتثبيت «شرعية» الوجود «الإسرائيلي» في فلسطين، وللتهويد المنشود للقدس ومعظم الضفّة الغربية. فهذه «الشرعية» تتطلّب قيام دويلاتٍ أخرى في محيط «إسرائيل» على أسس دينية أيضاً، كما هي الآن مقولة «إسرائيل دولة لليهود». فكلّما ازدادت الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية على الأرض العربية، كلّما اقترب الحلم الصهيوني الكبير من التحقّق في أن تكون «إسرائيل» هي الدولة الدينية
الأقوى في منطقةٍ قائمة على دويلاتٍ طائفية.
أمن «إسرائيل» يتحقّق كما قال أحد الوزراء «الإسرائيليين» بعد حرب 1967 «حينما يكون كره العربي للعربي أكثر من كرهه للإسرائيلي». فنشوء دويلات جديدة في منطقة الشرق الأوسط سيدفعها إلى الصراع مع بعضها البعض، وإلى الاستنجاد بالخارج لنصرة دويلة على أخرى، وإلى إقامة تحالفات مع «إسرائيل» نفسها، كما حصل خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية، وكما فعلت ذلك بعض قوى المعارضة في جنوب سورية.
وحينما تنشأ هذه الدويلات، فإنّها ستحتاج إلى زيادة ديموغرافية في عدد التابعين لهذه الطائفة أو ذاك المذهب، ممّا سيسّهل حتماً مشروع توطين الفلسطينيين في لبنان وسورية والعراق وبعض دول الخليج العربي. وفي ذلك «حلٌّ» لقضية «اللاجئين الفلسطينيين»، تُراهن عليه أيضاً «إسرائيل»!
وفي حقبة «الصراعات الدموية العربية» التي تعيشها المنطقة الآن، تواصل «إسرائيل» بناء المستوطنات في القدس والضفّة، وستزيد من درجة الضغوط على فلسطينييّ 1948 لتهجير ما أمكن منهم ربّما إلى «دويلات» تحتاجهم عدداً، بل قد يكون ذلك، بالتخطيط «الإسرائيلي»، الوقت المناسب لجعل الأردن «الوطن الفلسطيني البديل»، خاصّةً بعد تعهّدات نتنياهو بضمّ مناطق المستوطنات في الضفّة الغربية لـ «إسرائيل»، وبعد تصريحات السفير الأميركي ديفيد فريدمان أمام مؤتمر «الإيباك» عن «يهودا والسامرة»!.
«إسرائيل» بمختلف حكوماتها راهنت على تجزئة المجزّأ عربياً، وشجّعت كلّ الحركات الانفصالية بالمنطقة كالتي قامت في جنوب السودان وفي شمال العراق، وأقامت إسرائيل «دولة لبنان الحر» على الشريط الحدودي لها مع لبنان في ربيع العام 1979 كمدخل لمشاريع التقسيم الطائفي الذي أعدّت له منذ حقبة الخمسينات من القرن الماضي.
فكم هو الآن جهلٌ مثيرٌ للتساؤل حينما يتمّ استبعاد الدور «الإسرائيلي» في تفاعلاتٍ داخلية تحدث في عدّة أوطان عربية، وحينما لا ينتبه العرب إلى المصلحة «الإسرائيلية» الكبرى في تفتيت أوطانهم وفي صراعاتهم العنفية تحت أيِّ شعارٍ كان.
مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن
Sobhi alhewar.com