وحدة الجزائر والأقنعة الخارجية
كمال حميدة
الشعب والجيش قوّتان متلازمتان محصّنتان للتكتل الوحدوي الداخلي من الاختراقات الخارجية، ويشكلان فعلياً القدرة المتوازنة داخل الدولة في تركيبتها السياسية في حال حدوث أية تصدعات أو ارتباكات خطيرة. فلا الشعب قد يستغني يوماً عن جيشه حامي حدود أراضيه وضامن لاستقراره وأمنه، والجيش ليس هو الآخر في غنى عن شعبه الحاضن لوجوده ورفيق نشأته وإرشاده وتوجيهه، والطاقة المعينة الدائمة له في إمداد قوته.
فالمتعارف عليه أنّ الجيش الجزائري أحد الجيوش العربية الباسلة التي دحرت الجيش «الإسرائيلي» في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973. وهو سليل الثورة التحريرية، قاد الشعب إلى النصر تحت راية جبهة التحرير الوطني.
وعقب الاستقلال عام 1962 لم تعلن مؤسسة الجيش انفصالها أو حيادها عن طموحات الشعب وصون وحدته، بل وقفت إلى صفه دفاعاً عن نسيج تماسكه وجبهة تلاحمه، كما قادت شؤون حكمه في بعض المراحل، عندما رأت أنّ الظروف تستدعي التدخل والتحكم في زمام الأمور قبل الغرق في دوامة الفوضى والانهيار الأمني.
خلال التظاهرات السلمية الأخيرة، لم يخيّب الجيش آمال الملايين المنتفضة في الشارع في إزاحة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ومحيطه عن الحكم، فانحياز قيادة الجيش إلى رغبة الشعب فلا مناصّ أنه أعطى دعماً قوياً وحاسماً للخلاص من طبقة حاكمة صارت غير مرغوب فيها لتولي عهدة خامسة، بعدما كان كابوساً يؤرق المحتجّين ويجهد حراكهم ويسيل عرقهم، وهم أيضاً كانوا لا يعلمون أنّ حلمهم قد يتحقق واقعاً في الأجل القريب أو المديد أو استحالة حدوثه.
لقد اطلق المتظاهرون هتافات رافعين شعارات «الجيش والشعب خوة ـ خوة» باللهجة المحلية أيّ بمعنى: إخوة إخوة. فأبناء الجيش هم إخوة هؤلاء الشباب المتظاهرين، الذين هم جزء لا يتجزأ من هذا الشعب الثائر، ونشأوا نشأة الحب للوطن ونهلوا من ينابيع التضحيات الثورية النضالية والاستماتة حتى الظفر بالاستقلال، ومواصلة الدرب في تأمين الوحدة الداخلية الترابية من كلّ المخططات الهدامة الخارجية، التي تستهدف سلامة الوطن وآمان المواطن، عبر المحاولات الإرهابية المنطلقة من دول مجاورة أو من أراض إقليمية، أو المحاولات من بعض الدول العربية بإقحام الجيش الجزائري في حروب خارج سيادة أراضيه والتدخل في شؤون غير بلده، حتى يسدي خدمة لحلفاء الولايات المتحدة و»إسرائيل» بتمزيق بلد شقيق تربطه صلة الدم والعروبة، وهو ما يسهل فتح أبواب المشروع الأميركي لتفكيك المجتمعات العربية وتفتيت وحدة أوطانه من المحيط إلى الخليج.
لقد تابعنا مؤخراً أنّ حكومة موسكو حذرت من أيّ تدخل خارجي في الحراك الشعبي، وكانت هذه الرسالة موجهة لفرنسا تحديداً، لكون حكومة باريس تدخلت في الشأن الجزائري، أولها دعمها للمقترحات الرئاسية التي كان يرفضها الشارع، وثانيها تحذير قيادة الجيش الجزائري من ملء أيّ فراغ دستوري وتوليها مقاليد الحكم، وهي إشارة لنائب وزير الدفاع وقائد الأركان احمد قايد صالح. ففي ظاهرها لا تؤيّد الحكومة الفرنسية تولي قيادي عسكري أعلى منصب في بلد كانت تحتله بالحديد والنار طيلة مئة وسنتين، وفي الخفاء أنّ الفريق القايد صالح لا تربطه علاقة قوية مع حكومة الإليزيه. فمنذ أن تسلّم قيادة الأركان اختار روسيا وجهة له في توريد الأسلحة العسكرية بدل فرنسا، كما فرض التعريب في البيانات والمنشورات والخطابات داخل وزارة الدفاع الوطني، كما أصدر تعليمات ملزمة التنفيذ بمنع تحرير كافة الوثائق السرية التي تصدر عن وزارة الدفاع الوطني باللغة الفرنسية والاقتصار على اللغة العربية. فضلا أنّ الفريق القايد صالح من جيل المقاومين المحاربين في حرب التحرير قد اعتذر من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته للجزائر عن عقد جلسة لقاء ثنائية بينهما داخل السفارة الفرنسية. هذا في وقت أنّ الإعلام الفرنسي لم يكن غائباً عن تظاهرات الشعب، فرغم انبهاره بسلميتها وحضارتها، ظلّ يتابع حدثها بكلّ جزئياتها وتفاصيلها متذرّعاً بالتصريحات الحزبية اليمينية أنّ أيّ اختلال بين المتظاهرين ورجال الأمن سينعكس على الواقع الفرنسي، بتدفق المهاجرين إلى الأراضي الفرنسية. وحينما أسقط هذا القناع باستقالة الرئيس بوتفليقة، سعت أن تدسّ السمّ في العسل بالتشكيك في ثقة الشعب بالجيش، واصفة أنّ المرحلة الانتقالية ما هي إلا صراع بين الشعب والجيش على من يحكم بقبضته على إدارة شؤون البلاد.
التدخلات الخارجية صدرت أيضاً من إمارة خليجية، التي لا يرضيها الحراك الشعبي السلمي أو حتى وحدة الجيوش العربية وصلابة قراراتها ومواقفها. لقد حذرت من تدخلاتها أصوات المتظاهرين، بعد أن نشرت أكاذيب وأضاليل عبر مواقع التواصل الاجتماعي والالكتروني بهدف التشويش على المحتجّين، ومن أجل خلق الفتن والبلبة في أوساطهم، كما صوّبت رسائلها نحو القيادة العسكرية قصد تشويه صورتها كونها مهرّبة للأموال من الجزائر وتستثمرها في الخارج، ناهيك عن تقديم معلومات ملفقة حول استشراء الفساد داخل المؤسسة العسكرية.
هذه المعطيات شكلت محاولات للضغط على الجيش الشعبي الجزائري، باعتباره العمود الفقري لحماية وحدة الجزائر والضامن الفعلي لأمن المواطنين الجزائريين. لكنها فشلت فشلاً ذريعاً كونه مثل الذراع الأيمن للمتظاهرين بإسقاط رئاسة بوتفليقة، ولا يزال الجيش يساهم بمرافقته للنشطاء السياسيين سواء من المتحزّبين أو المستقلّين في المرحلة الانتقالية، وأيضاً سيكون بثقله حاضراً ومستقبلاً يراقب عن كثب التوازنات والتقلبات داخل المشهد السياسي.