مصرف لبنان: ساعة الحقيقة
ناصر قنديل
– منذ مطلع التسعينيات ارتبط الاستقرار النقدي في ذهن اللبنانيين برمزين، الأول المشروع الإعماري للرئيس رفيق الحريري والإدارة النقدية لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وما لا يمكن إنكاره أنّ الانهيار المالي الذي سبق تدفقات الإعمار بواسطة الديون، والتدخلات المالية بالليرة اللبنانية بواسطة الفوائد المرتفعة التي قاربت الـ 50 ، وضع اللبنانيين بين حدّي مخاطرتين، الأولى فقدان السيطرة والدخول في المجهول مع بلوغ سعر صرف الدولار ثلاثة آلاف ليرة لبنانية والمزيد مفتوح، والثاني التسليم بلحس مبرد يوقف التدهور، لكنه يجعل لبنان بلداً معرّضاً لخطر انهيار بسبب العجز عن تحمّل العجز المتراكم في موازنته وصولاً للعجز عن الاستدانة لتمويل هذا العجز سواء من داخل السوق اللبنانية أو من خارجها، بسبب بلوغ الدين نسبة الخطر قياساً بالدخل الوطني الإجمالي وبلوغ فوائده نسبة أشدّ خطورة قياساً بإجمالي الموازنة، وبلوغ العجز بالتالي الضوء الأحمر قياساً بالإثنين. واختار اللبنانيون الخيار الثاني وسط تهليل ليس له مثيل، لأنهم اشتروا حاضرهم بمستقبلهم، تحت شعار يخلق الله ما لا تعلمون، أو أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب.
– ها نحن بعد ثلاثين سنة أمام ساعة الحقيقة، التي كان ينكر قدومها كلّ مسؤول تمّت مواجهته حينها بهذا الخطر، وأذكر في مناقشتي للموازنة العامة عام 2000، أنني كنتُ من الذين رفعوا الصوت عالياً لمواجهة اقتراب هذا الخطر، بالاستثمار على بناء اقتصاد إنتاجي يحدّ من الاعتماد على الاستيراد، ويسدّ الفجوة المرعبة في الميزان التجاري، ويحدّ من الاعتماد على الدين في تمويل الموازنة بالذهاب لنظام ضريبي منصف وعادل، وبالمناسبة هذين الإصلاحين يختلفان جذرياً عن كلّ كلام حول الفساد ومكافحة الفساد، وهذا ما يتمّ دمجه اليوم في خلطة عشوائية بما لا علاقة له بالعلم أو بالحقيقة، فوقف الهدر ومكافحة الفساد شأنان مطلوبان لو لم تكن لدينا أزمة، وكذلك التذكر الموسمي لحقوق الدولة الضائعة في الأملاك البحرية وسواها، والحقيقة الصادمة هي أنّ التشبيك اللبناني مع اقتصادات الجوار من سورية إلى العراق إلى إيران يُقرأ في السياسة ويُحارَب بصفته ربطاً سياسياً، بينما هو اقتصاد محض، يجب على السياسة أن تنحني أمام موجباته، هكذا كان وهكذا هو اليوم أكثر من ضرورة.
– خلال عشرين عاماً أخذتنا الأحداث السياسية الكبرى نحن والمنطقة، وكانت المياومة في المالية العامة هي سيدة الموقف، لكن ما حدث خلالها، هو كبير وكثير، ففي الوقت الذي قام الاقتصاد والمالية العامة على شراكة المشروع الإعماري للرئيس الحريري ومصرف لبنان وقطاع المصارف، بتناغم وتبادل أدوار وخدمات وحماية، بدأ الانفصال بين المشروعين يظهر والفجوة تكبر. ففي الوقت الذي كان مشروع الإعمار يستسلم بإعلان الفشل رغم التباهي بآخر نسخات التمويل الخارجي التي يمثلها مؤتمر سيدر، تنامت مقدرات ومكانة مصرف لبنان والمصارف، إدارة وموظفين وأموالاً وواقع حال، كجزيرة حالمة وسط البحر اللبناني العاصف، أو كواحة خضراء وسط الصحراء اللبنانية التي تزداد اتساعاً وقحلاً. وفي السياسة بقدر ما كان يجري تحميل السياسات الإعمارية مسؤولية الفشل وتحمّلها نتائج ذلك معنوياً وسياسياً وشعبياً ممثلة بتيار الرئيس رفيق الحريري ومن بعده الرئيس سعد الحريري، كانت قيادة مصرف لبنان ومن ورائه المصارف تنجو من كلّ مساءلة وحساب، وتتقدّم كمنقذ ومخلّص يستحقّ الأوسمة.
– دخل نظام العقوبات على حزب الله، تحت شعار مكافحة تبييض الأموال ومن ثم تمويل الإرهاب، بصورة مموّهة كأداة لتمييز مصرف لبنان والنظام المصرفي عن لبنان كدولة ومالية وتحوّل الجزيرة المصرفية التي لا يتحدّث عنها أحد، من الذين يتلهّون بالحديث عن الجزر الأمنية، لتصير جزءاً من المنظومة السياسية المالية الدولية، المنفصلة عن السيطرة اللبنانية والقوانين والقرارات والتعيينات، فكلّ ما يخصّ هذه الجزيرة يخضع لشراكة الخارج، ولو بطريقة غير مباشرة، بالاستئناس إنْ لم يكن بلغة الوصاية الفجة، حتى في التعيينات والتغييرات الوظيفية، وبدا أنّ منصب حاكم مصرف لبنان بمعزل عن الشخص الذي يحتلّ هذا المنصب اليوم ونكنّ له كلّ التقدير والاحترام، أو مَن قد يحتلّه بعد عشر سنوات، نقطة الارتكاز للانتداب المالي الذي يعيش لبنان في ظلاله، واستمرّ الاقتصاد والدولة في لبنان يصغران والقطاع المصرفي ووزن مصرف لبنان يكبران. وها نحن الآن أمام ساعة الحقيقة الثانية، الدولة دولتان، واحدة تديرها حكومة ويشرّع لها مجلس نواب، وعلى رأسها رئيس للجمهورية، وثانية يديرها حاكم مصرف لبنان ولها أذرعتها في قطاع المصارف وجسم وظيفي يرتبط بالوفر المالي، فيما موظفو القطاعين العام والخاص في دائرة الضعف، وينتظرهم الأسوأ.
– الإنكار هنا يريح مصرف لبنان والمصارف من المسؤولية في الشراكة بتحمّل مسؤولية الوضع الراهن وكيفية مواجهته، بينما الاعتراف بهذه الحقيقة، لا يعني دعوة لتأديب مصرف لبنان والمصارف وموظفي مصرف لبنان والمصارف، بل إلغاء الازدواج بين التعامل معهم جميعاً في العلن كجزء من منظومة تخضع للحكومة، والتعامل معهم ضمناً وفقاً لمعادلة ميزان القوى التي تقول باستحالة لغة الإخضاع والحاجة للتفاوض ربما من موقع الندّ إنْ لم يكن موقع الضعف، وليس معيباً أن يعترف السياسيون بالمطلق أنهم أوصلوا لبنان لمرحلة الانتداب المالي الخارجي والسطوة المصرفية الداخلية، لكن العيب هو ألا يطلبوا عبر التفاوض مع النظام المالي شراكته العلنية في تحمّل مسؤولية الحلول، فلتجتمع الحكومتان علناً، مصرف لبنان ومعه جمعية المصارف، والحكومة برئيسها ووزير ماليتها ووزير اقتصادها وما مَن، يمثلون، وليخرجوا معاً بخريطة طريق للإنقاذ يتمّ فيها تقاسم الأعباء مقابل تقاسم تحمّل المسؤولية علناً عن اليوم وعن الغد، وإلا فكلّ هروب هنا، يجب أن يكون مفهوماً، أنه يحفظ مؤقتاً للحكومة ماء الوجه، لكنه يحمّلها مسؤولية فشل ليس بيدها منع وقوعه، ليس لأنّ القرار وميزان القوى في مكان آخر وحسب، بل أيضاً لأنّ التغاضي عن التمييز الذي لا يمكن ستره، سيؤدّي لتمرّد قطاعات، بيدها الأمن والعدل، وربما قطاع الاتصالات وقد بشرنا الوزير بأنه يجب أن يحظى بمعاملة خاصة لأنه يدرّ أموالاً على الخزينة، ولا يستهلك منها، وغداً قطاع النفط والغاز، وذلك بدء الانهيار الكبير.
– قبل الحديث عن مكافحة الفساد ووقف الهدر، يجب الحديث عن الدولة التي ستفعل ذلك، والدولة التي تدير جزراً سياسية اسمها الطوائف، هي اليوم تدير جزراً مالية اسمها القطاعات، وكما يدفع الأضعف ثمن اللعبة الطائفية، سيدفع الأضعف ثمن اللعبة المالية.