مغامرة جريئة لوعي الذات وامتلاكها والمضيّ بعيداً إلى بياض القلب

نصار إبراهيم

«أشبهني» هو عنوان النصوص النثرية للشاعرة والفنانة التشكيلية الأردنية غدير سعيد حدادين… وهو صادر عن «أمانة عمان الكبرى مديرية الثقافة» الطبعة الأولى 2014. ويبدو أن غدير فكرت وتأملت وترددت وراوغت وتعبت بما في الكفاية حتى استقرت على هذا العنوان: «أشبهني»، وكأنها ومنذ صفحة الغلاف تريد أن تحدّد ركيزة انطلاقها وهويتها، ورسالتها…

وبالرغم من أن النصوص قدمت نفسها كأنها نصوص خاصة جداً، أو بوح خاص جداً، غير أن هذا التقديم والحضور بهذه الصيغة كان مجرد وسيلة لمقاربة الوعي الخاص والواقع الجمعي والوعي العام… وذلك بهدف كشفه والتفاعل معه واختراقه ومواجهته… وتلك حركة ماهرة وجريئة في استخدام الذات صراحة كقوة صادمة ومباشرة… فغدير لم «تختبئ» وراء «هي» بل دفعت بـ»الأنا» لتقتحم المساحات والحدود كي تقدم نفسها ورؤيتها وبوحها وهمومها ويأسها وأملها من دون خداع أو تردد. وبالتالي دفعت بتلك «الأنا» إلى الميدان، ولم يبق أمامها سوى خوض المواجهة كي تثبت جدارتها وتماسكها وتنتزع حقها بالوجود الفاعل والمحترم، أو لتخلي حقل الاشتباك ولتغادر نحو رصيف الفعل والقول والوعي.

بهذا المعنى، ما تقوله غدير أو أرادت قوله في ظلال النصوص، أو كظلال للمعنى أو البوح في النصوص، كان بالنسبة إليّ هو الخافية الصارمة التي قادت النصوص من بدايتها حتى نهايتها.

يقول العطري إن «أي إنتاج أدبي هو فعل مجتمعي ينتجه فاعل اجتماعي محدّد ويتوجه به إلى فاعلين آخرين في سياقات اجتماعية محددة، فالاجتماعي حاضر بقوة في جميع مراحل «الدورة البيولوجية» للعمل الأدبي. هذه الفكرة أكد عليها أيضا الإيطالي فيكو 1725 الذي يرى أن كثيراً من الأعمال الأدبية ما كانت لتظهر لولا السياقات والشروط الاجتماعية المرتبطة بها، في حين ترى دي ستايل أن كل عمل أدبي يتغلغل في بيئة اجتماعية وجغرافية ما، إذ يؤدي وظائف محددة بها، ولا حاجة إلى أي حكم قيمي، فكل شيء وجد لأنه يجب أن يوجد» عبد الرحيم العطري، 2006 .

إذن كشف واستكشاف ظلال المعنى أو النص أو البوح في مجموعة غدير يفرض التعامل معها في سياقاتها وملابساتها والتباساتها التي لا يمكن فصلها عن السياقات والملابسات الكبرى لمحيطها الاجتماعي بحقوله المتعددة المتراكبة والمتداخلة، كما لا يمكن فصل ذلك كلّه عن العلاقة الحميمة التي تربط الكاتب بنصوصه، وهذا في سياق التحولات التي يفرضها تغير الوعي والتجريب والنضوج عبر مساحة الزمن.

اللغة والنصّ

يشير محسن بوعزيزي، رئيس الجمعية العربية لعلم الاجتماع، إلى أن اللغة هي البنية الخفية وراء الكلام، فلا يمكن للفرد أن يتصرف بها، ذلك لأنها بمثابة العقد الجماعي الملزم لكل من يريد التواصل بها، أما الكلام ففعل فردي من الانتقاء والتحيين، وهو دائم الحركة بحسب المتكلم. وبناء على ذلك فإن قوة الكلمة وسلطتها لا تنبعان من ذاتها بل من الاستعمالات الاجتماعية لها. وبكلمات أخرى، وفق سوسير، اللغة نتاج اجتماعي، وليدة تعاقدات أو مواضعات اجتماعية متى استقرت أنشأت سنناً كود يفرضها الاستعمال بفضل بلورة اجتماعية تمنح الفرد منظومة رمزية ينتقي منها ما يناسبه بحسب قواعد محددة، فيتحقق من خلالها الفعل التواصلي، حيث يتولد المعنى في كثير من الأحيان من العلاقة مع العناصر الغائبة بوعزيزي، ص 61، 64، 70، 2010 .

من هنا تتبدى إشكالية العلاقة في اللغة بين إطارها وقواعدها كعقد جماعي واستعمالاتها الفردية، الأمر الذي يثير إشكالية النص والرمز والدلالة، وذلك كلّه في سياق حركة الواقع وعلاقة الذات به. هكذا تظهر إشكالية الإيحاء أو ظلال المعنى بحسب تعبير بو عزيزي لدى التعامل مع اللغة ضمن أنساق الواقع الاجتماعي وأسئلته وتحدياته.

إذن قراءة النص وفهمه هي عملية مركبة، فالنص يتشابك مع الخطاب الاجتماعي اليومي، حيث نواجه دائماً سؤال: ماذا يعني هذا؟ علامَ يدل؟ وسؤال المعنى هذا يحول الواقع فكرة، وصفاً، تأويلاً، إسماً آخر غير اسمه الأصلي المصدر السابق، ص77

إذن، ولكي يتم إدراك أبعاد هذه العملية العميقة وتجلّياتها، يصبح بحكم الضرورة قراءة النصوص بما هو حاضر فيها وما هو غائب عنها، ذلك للغياب في النص قوة الحضور وسطوته. هنا تحديداً تتقاطع مقاربة سوسيولوجيا الأدب مع السيميولوجيا، في محاولة لالتقاط تلك الخيوط والشحنات اللامرئية التي تجعل من دراسة النص، أي نص، حقلاً للمعرفة والاجتماع والثقافة واللغة والمخيال.

«أشبهني»… الأنا بين خافية الأنثى والآخر:

يحيل تعبير أو مفهوم العنوان «أشبهني» ومنذ اللحظة الأولى على حالة من المواجهة والصراع العميق الذي يواصل فعله منذ بداية النصوص حتى نهايتها، والصراع هنا يأخذ معنى الكشف والتفاعل وليس الصراع العدائي. إنه عملية بناء وتحديد إن جاز التعبير. فاستخدام غدير لتعبير «أشبهني» كان واعياً ومقصوداً وحاسماً ولهذا اختارته عنواناً للنصوص ، ما يعني أن له وظيفة تتجاوز اللغة المباشرة. فما أن وقعت عيناي على العنوان حتى انبثق فوراً تساؤل مفتاحي: من الذي يشبه من هنا يا ترى؟. وبعملية تفكيك بسيطة نجد أن غدير تقول: أنا أشبه أنا… ولكن ما الفرق بين أنا و«أنا»؟ وما الهدف من ذلك؟

هذه الأسئلة سنجد الإجابات عنها مبثوثة وفاعلة في النصوص كلها. ليست محصورة في نص واحد. لذا علينا البحث عنها والتقاطها بأناة وهدوء. كي نتمكن في النهاية من التقاط وظيفتها المضمرة.

في البداية تتشكل مستويات الأنا في نصوص غدير من بعدين واضحين: أنا الإنسانة المباشرة الأنثى المعلنة والمشخصة في ذات وأسرة وعمل وعلاقات يومية والتزامات ومسؤوليات وقيود وحدود وضوابط وانفعالات وتجربة معاشة. و«أنا» المضمرة، أنا الفكرة، أنا الكاتبة المتحررة… أنا الراكضة خلف أحلام وعواطف وعلاقات تتخطى ما هو سائد في الواقع. وفي سياق التفاعل بين هذين المستويين من الأنا تتمّ عملية التفاعل بجميع ملابساتها والتباساتها، بسائر متعها وآلامها وأحباطاتها وفرحها. هنا، أي في تلك المساحات الملتبسة بين الأنا والأنا، حيث تتقاطعان حيناً وتفترقان حيناً، تجري عملية الفك والتركيب في النصوص. هذه الخافية تلعب دور الموجه لحركة النصوص، بل وتلعب دور الموجه المشاكس والصعب المراس لتحديد العلاقة مع قوى الفعل والتأثير الأخرى القادمة من خارج النص، أي الآخر، الآخر الرجل، الآخر المجتمع، الآخر الأنثى… وعي وإدراك غدير هذه الإشكالية هو الذي أجبرها ومنذ نص الإهداء الافتتاحي على إعلان التحدي والتمرد كأنها تقول: سأخوض مغامرة المواجهة، بيني وبيني، وبيني وبين كل ما سواي… والهدف ليس بالتأكيد التدمير والتحطيم العفوي والفوضوي… بل الهدف هو: محاولة وعي الذات… لتحديد الفواصل بيني وبين ذاتي، وبيني وبين الآخرين… تقول:

«أذهب بعيدا لأراني،

أجتاز أكوام حزن رمادي،

أتعثر بفراشات كئيبة تطير حولي،

وطيور سوداء لا أعرفها وتعرفني،

سأمضي أبعد وأبعد، إلى بياض قلبي…

فأكتبني وأهديني إليّ…» ص 11

إذن هنا، في هذا النص المفتاحي المصوغ بعناية ودقة، يتحدد خط البداية، منصة القفز. من هنا سأمضي في عملية كشف حساب وتصفيته أحياناً، أولاً مع ذاتي وثانياً مع الآخر. الدافع لكشف الحساب وهدفه الحاسم في آن واحد هو إعادة وعي الذات وامتلاكها لكن على أسس ووفق قيم ومنظور جديد. وذلك بهدف أن أكون أنا أنا وليس أحد سواي. مغامرة جريئة تضج بالتحدي المعلن.

غير أن نقطة الانطلاق تلك تستند إلى خافية هائلة وثقيلة. خافية الأنثى الأصل إن جاز التعبير، ولهذا كانت غدير تصر وتلح في نصوصها على هذا البعد. كانت تقوم بحفره وتأكيده في وعيها وفي صخر الواقع. تقول: «اقرأني جيداً.. تتبع مجرى نهري ستعرف يوما أنني البحر وأنت جدول…» ص 21 كأنها مسكونة بالأسطورة البابلية، حيث تحتل الأنثى بجميع سماتها المدهشة محور الوجود:

«عندما في الأعالي لم يكن هنالك سماء،

وفي الأسفل لم يكن هنالك أرض.

لم يكن من الآلهة سوى آبسو أبوهم،

وممو، وتيامة التي حملت بهم جميعاً،

يمزجون أمواههم معاً». سواح ص 15

لهذا كانت خافية الأنثى كتكوين ودور ومحور وشعور وطموح واعتداد بالذات تشكل قوة سارية تعطي للنصوص عمقاً وحضوراً جدياً جريئاً، بعيداً عن الهشاشة الأنثوية السائدة في الواقع المعاش.

إذن كان يجب أولاً وقبل أي شيء أن»أذهب بعيداً لأراني» هكذا تعلن غدير، أن أرى المشهد كاملاً بعلاقاته وأثقاله وقيوده ومداه وأفقه، لكي أكتشف أين أقف… وما الذي ينتظرني.

فهي لا تريد أن تخوض في الواقع قبل أن تراه بشموله، فأخطار إلقاء الذات في بحر مجهول هائلة، ولهذا تصرّ: علي أولا أن أرى كل شيء، أن أعي كل شئ حتى ذاتي، وبعدئذ فقط «سأمضي أبعد وأبعد، إلى بياض قلبي…فأكتبني وأهديني إليّ…» إذن الهدف البعيد ذاك هو الأنا الثانية، الأنا المتخيلة، الأنا المشغولة بعناية.

حالة الوعي الشرطية هذه ليست عفوية أو ارتجالية بل هادفة وغائية تماماً:

« منذورة أنا للريح، للقمح الذي لم ينبت، منذورة للحقول البعيدة… التي ترتجف برداً في عزلتها… منذورة أنا للسماء لليل للقمر للسنين. منذورة لقرص الشمس الذي أشعَلَته عندما اقتربت منك» ص 31 . إذن العملية بمجملها مرتبطة بأهداف كبرى، بأحلام كبرى، وبتمثلات كبرى… أي بناء عالم غير هذا القائم ببؤسه وأثقاله ومحدودية آفاقه… فالعالم والواقع البديل هو عالم وواقع منفتح على المدى… مدى الروح ومدى القلب ومدى الطبيعة… هناك حيث تضيء العلاقة بين الأنا والأنا، بين أنا وأنت، بيننا وبين كل شيء. ذلك لأنها هي التي تشعل قرص الشمس وليس العكس، فضوء الشمس ليس قادراً البتة على أن يدفئ قلوباً مطفأة وخامدة بذاتها. لكن الشمس ذاتها سنراها وستمارس وظيفتها وحضورها بطريقة أخرى عندما نغير نحن ذاتنا وعلاقاتنا أولاً. ذلك هو أصل الحكاية وجذرها.

لهذا البعد، فإن تحديد التخوم والحدود والأبعاد ومنذ البداية يشكل نقطة مفتاحية لفهم حركة النصوص بالكامل. بل يغدو عملية حاسمة لتحديد العلاقة مع الآخر. ولكن شرط ذلك أن أعي أولاً من أنا، فتحديد ذلك سيحدد المعايير والعلاقات. لذلك كلّهخ تحتل «الأنا» مساحة النصوص. وقبل أن تتحرك الأنا نحو الآخر، كان عليها أن تقوم بتحديد ووعي ذاتها أولاً، إذ يجب استجلاء العلاقة بين أنا الواقع وأنا الطموح والفكرة والأمل، لكي تذهب «الأنا» بكامل جمالها ووضوحها وأناقتها وحسمها إلى الآخر أياً كان ذلك الآخر. إذن كان طبيعياً أن تعمل غدير وبعناد لكي تضع يدها على المشكلة من البداية:

«ليس لي قلب وكل هذا الحب لي… ليس لي قمر وكل هذا الليل لي… ليس لي وطن والأرض كلها لي… ليس لي إسم، لا هوية… لا ملامح… ما عدت أنا … ما عدت أراني» ص 18 .

هنا يتبدى الألم والوعي الساحق لفداحة المعادلة وقسوتها، فكيف ستعطي الأنا أجمل ما لديها ما دامت مثقلة ومقهورة ومقيدة بكل هذا الضياع العظيم. هنا جوهر المعضلة:

« أجبني.. ولا تتعذر هل يمكنك أن تحيا بين ظلال نبضي وأنا لا أملك ظلال نفسي» ص 44 .

هذا التساؤل يحدد البعد العميق للوعي المضمر. كيف أعطيك حياة ما دمت أنا لا أحيا، ففي هذه الحالة أخشى «أن يكون لنا وطن من غير قلب» ص 52 . ولهذا يصبح بمثابة الضرورة أن أجد ذاتي أولاً لكي أعطي، وإلاّ سيكون الحب بلا معنى وبلا حياة، كما الوطن من غير قلب. وهذه عملية في منتهى التعقيد. إنها في حاجة إلى إرادة الأنا أولاً. وعلى الآخر أي أنت، أو الآخر سواء كان رجلاً أو مجتمعاً أن يكون جزءاً من هذه الصيرورة. وبعدها فحسب سيأخذ الجميع مني حباً صافياً وعلاقة صافية وواضحة، حينها سيكون هذا الحب قادماً من القلب والوعي والحرية وليس من القهر والاستلاب، إنه عطاء القناعة وليس الخوف. إذن غدير تهمس هنا بما يشبه ظلال المعنى: بأن الحب الذي يأتي قسراً ليس بحب، سواء كان حباً عاطفياً، أو حباً لصديق أو حتى حب الوطن. فالحب الحقيقي الوحيد هو الحب الذي يولد من علاقة حرة ونبيلة. ذاك هو الحب الذي نذهب إليه بكل بهائنا واختيارنا وقوتنا.

ومع ذلك يبقى الواقع حاضراً بمختلف قيوده وقسوته ومحدداته ليمارس سطوته في قهر هذه الرغبة الجامحة، ولذلك لا يغيب عن النصوص صدى خطواته الثقيلة، فهو يعلن عن حضوره بصورة دائمة:

«البارحة، سقط مني صوتي… على جدار أصم… سمعني واكتفى» ص 60 حين تسرقني الدنيا مني…»، حينها أبحث عن «… أحلام تغدو مع الأيام بلسماً لجراحي» ص 34 .

مفهوم الصوت هنا ليس ليس حصراً بالكلام، بل هو كل ما تعلنه الأنثى عبر مختلف أدوات التعبير عن رأيها ومكانتها ودورها تجاه كل ما عداها بالكلمة بالصمت بالدمعة بالصرخة بالغضب بالرفض والقبول والمقاومة. إنها تحدد وتصوغ معاييرها ورأيها في كيف يجب أن تكون وموقعها في سياقات محيطها. فهي تصرخ، ولكن على جدار أصم، أو من دون رد فعل. إذن هو طلب واضح. إنها تريد موقفاً واضحاً كي تتقدم، وفي سياق التقدم ذاك يزداد الوعي بالواقع قسوة كما في «جثة صمت»:

« هل تدري ما معنى اليأس؟ أن يصنع منك الحزن جثة صمت على فوهة الكلام… هل تدري ما معنى الوحدة؟ أن تسير في غابات تخلو من الأشجار… هل تدري ما معنى الأمل؟ أن تشرب الألم مثل كأس ماء وتجلس لتتأمل نعمة مفاجئة» ص 39 .

هنا تتحرك وتتبدى متاهة الواقع بما يمثله من إرهاق وقيود ثقيلة… حيث تنهض الأنا وتركض بين: اليأس والحزن والوحدة والأمل… إنها الرحلة التي لا بد من قطعها لكي يكتمل الوعي وتنضج الذات في بوتقة المقاومة… لكنها لا تحيد عن الأمل لحظة… وإلاّ ضاعت وأضاعت. لهذا تقول « أريدك أن تحيّك لي جناحي فراشة كي أهجر عتمة ألواني… كي أكتبك بإتقان!!!» ص 41 .

إذن ما دامت المواقف والعلاقات غير واضحة أو محسومة: فإني سأبقى «في صومعة اللون أمارس طقوسي بحرية» ص 61 ، في هذا النص نكوص لحفظ الذات وحمايتها وتغذيتها بالمخيال بيني وبين نفسي، إنها عملية ارتداد نحو الذات، ذلك لأنني سأخوض المواجهة وحدي، لأن «رغبتي بالجري نحوك تتلعثم… هل أتراجع أم أتقدم… لا تغفل عني أنظر في عيني… إرم بخوفي جانباً أنت لي أرض وسماء.. أحتاجك اليوم أكثر» ص 62 ، فهل هناك وضوح أكثر من هذا؟! بل ويتعمق الوضوح ويصخب أكثر:

«أحتاج أن أقبل عينيك دون خجل… أحتاج أن أسير دون أن أرى إلاّ أنت» ص 72 . أريدك، هكذا تعلن الأنثى بوضوح، ودون خجل… فهل «أنت» مستعد لهذا الوضوح؟ بل إن ما يغيب في ظلال النص أكثر جرأة: هل أنت: مستعد للكفاح معي ضد هذا الخجل الاجتماعي السائد كي أعود»زهرة لا تعرف الذبول» ص 72 ؟

إذن، بقدر ما في النصوص من تمرد وغضب عارم وشفافية ورقة وعاطفة ناعمة بقدر ما تحمل من ألم وشك… ما يشي بصعوبة الطريق ومشاق البحث عن الذات. عملية إعادة الولادة وبناء العلاقات من على قاعدة الوضوح والمساواة والحب واالتكامل. شك مؤلم:

«أسيل على حافة صبح رمادي… لا أعلم أيهما أقرب إلي… صباح يمشي باتجاه ليل بعيد أم حلم بانتظار ليل لا يأتي…» ص 69 . وتضيف «… أدعي أني أراقص طيفك… وأعلم تماماً أني أراقص السراب… ربما لم تشتعل بك الذكرى… لكني ما زلت جماعة للحطب… ووحيدة جداً» ص 36 37 حالة من التردد، البحث والانتظار المخفي. وقوف في منطقة الاشتباك أو الحرام بين اليقين والشك «حافة صبح رمادي»… في الأفق ليل بعيد وليل لا يأتي، والمسافة بين هذين الليلين مرهقة، الأول الذي يضيع فيه الصباح، والآخر المسكون بالأحلام الكبرى…إنني أدرك بل أعلم أني أراقص السراب وإني وحيدة جداً… حالة من قهر مضني … قهر لا يزال يراهن… وألم عميق ولكن رغم ذلك عناد على المواصلة… سأواصل جمع الحطب… أنت بما أنت لست أكثر من كومة حطب… لكنه قدر الأنثى أن تراهن على بث الحياة في ذلك الحطب، لهذا حتى وأنت حطب فأنت ضرورة، ولهذا أجمعك… تلك هي طبيعة الأشياء والعلاقات الأزلية بين الذكر والأنثى…

كاتب وباحث وقاصّ فلسطينيّ

يتبع في عدد الاثنين جزء ثانٍ أخير

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى