أمين الباشا… أمين الماء وباشا الطير بحساسية اللون قد رحل!
جهاد أيوب
هو واحة بالتواضع…
وهو غاية بالمراقبة…
وهو أغنية بصمت المغني…
وهو ريشة من لبنان أنهكها الجمال…
وهو لون من الأرض اغتاله الإهمال المتعمّد من جاهل يدّعي الحضارة ويحكم بالسيف…
وهو كل حكاية مرهفة، وانشودة غنية بالجمال، ونسمة عابرة تُغني اللحظة الفكرية بسرد يطول…إنه الفنان التشكيلي الذي كنا نفتخر به في كل معارض العالم، ونفاخر بأن لدينا قيمة تشكيلية ننافس بها الجميع في وطن يغتال المبدع فيه، وفي أمة تنجب أولاد الرصيف، وفي حضرة زعامات تصرّ أن لا نتعلم الجمال…إنه الفنان التشكيلي أمين الباشا…
رسم أمين الباشا الجمال فينا ونحن لا نعرف أننا نمتلك الجمال!
رسم أمين الباشا ألوان الخيال حتى زرع فينا دون أن ندري أننا من عالم المحبين في لعبة الخيال، ومَن لديه عاطفة الخيال، وفكرة الخيال يغوص مع الحلم حتى الانتعاش، ويصبح في العلم حتى الانتظار، ويرفع راية ما هو جديد أفضل مما هو متاح!
أمين الباشا يدرك المرئيات المائية في نصه البصري، عشق الرسم بالمائيات، ودَوّن قلقه في الزيتيات، وجال مع الغواش، وألف قصصنا في الباستيل!
أقصد أن الباشا ينحت الأصباغ بكل أنواعها حتى تصبح مطواعة ومطالعة وطيعة ولينة يتحكم فيها وبها بين يديه، لتصل إلينا بعمق فلسفة الجمال المبسط خارج خربشات الحياة، وخارج خربشات من يدّعي التشكيل، وخارج نطاق الفوضى الحياتية!
أمين الباشا تميز برسم طائر اللون، وبالنص النظيف المدروس والقيمة، أحب أن تكون لوحته صغيرة الحجم وإن غامر تصبح متوسطة التكوين، ولم يكن يحب التفلسف في التأليف، ولا يؤمن بتغليف الفكرة بقدر إيمانه بأن يحمل نصه الصورة الجمالية بعمق الفهم وإرسالها ببساطة خارج التكلف.
جال في شوارع مدينته بيروت فنحت أنينها، وتصالح في منحوتاته مع المارة، وجالس الشعراء على ضفاف ما تبقى من مدينة فقدت ظلها، فطالعنا في نحته على همنا الذي يشبهنا ويشبهه وشبه بقايا أحلام ست الدنيا!
ركز في منحوتاته على نعومة الزوايا والفكرة خارج الضجيج، والضربة الحادة لإزميل يشبه شعراء المهجر حيث يرسمون ذاكرة يفتقدونها، وما أصعب أن يرسم وينحت ويكتب الفنان ذاكرة تموت بين ناظره فيعيد إحياء ما أمكنه بيده، وهذا حال الموجوع أمين الباشا في وطن اغتيالات الذاكرة!
يوم بدأت بيروت تتغيّر أخذ قلمه بكتابة مشاهدات عابرة لتصبح مشاهداتنا من خلال ثلاث كتب ضمنها قصصنا القصيرة، وزادها ألوان رسومه… قصص صارخة في وديان بدأنا لا نسمع صدى أصواتنا فيها!
هو أمين الباشا الذي تعمّد أن يخاطب الجميع دون كلل وتعب من كل المتغيرات من حوله، دون أن يتعمد التنظير ومعرفة ما لا نعرفه. هو ليس متواضعاً في فهم ما يعمل، وهو ليس عادياً في نص تحدّى من خلاله النص الغربي واللبناني والعربي فكان رائداً، حاضراً، ثاقباً نفتخر به.
87 عاماً قضاها أمين الباشا شاهداً يتجلى أمامنا بقبته الإبداعية من خلال الرسم، والنحت، وبعض الكتابة، وكل النقاد، وكل الباحثين يشهدون لإبن لبنان الحالم بقيمته، وبتميّزه، وبأستذته، ويرفعون في لسانهم ونقدهم وبصرهم راية أمين الباشا الذي ولد في بيروت، وتعلّم في مدارسها، وسافر إلى باريس كي يزيد من علم الموهبة، وهناك تحدّى فنونها!
أمين الباشا غيّبه الموت منذ فترة قصيرة دون ضجة لكونه من المبدعين، وليس من المفسدين، وخبر رحيله مر بـ»عباطة» إعلامنا رغم أهمية الراحل لكونه لم يقتل، ولم يسرق، ولم يغتَل الإنسان، ولم يقصف عمر الإنسان، ولم يترك المواطن يموت على أعتاب المستشفيات، ولم يسمح بإحراق المتعب من أجل أن يعلم ضناه!!!
نعتذر منك أمين الباشا، نعتذر منك بيروت، نعتذر منك أيها الوطن الحزين، نعتذر من الإنسان اللبناني المنكسر، نعتذر من وجودنا لأننا لا نعرف بوجود قيمة مثل أمين الباشا لأننا لا نعرف بوجودنا…!