إفادتي في وجه إفادة مروان حمادة 5
ناصر قنديل
كان واضحاً لمن تابع حملة الرئيس رفيق الحريري على التمديد للرئيس إميل لحود، أنّ أيّ حضور للعلاقة بسورية في انتقاد أداء الرئيس لحود لم يكن وارداً في أيّ من خطابات الرئيس الحريري، لا بل العكس تماماً هو الصحيح، أنّ الرئيس الحريري قائد الحملة ضدّ التمديد كان يضع ثقله ليتمنى على كلّ من يستطيع الوصول إليهم ممّن تسمع كلمتهم في دمشق للنصح بتفادي هذا الخيار، والاعتبارات كلها كانت محض محلية تتصل بآلية ممارسة السلطة، ولم يكن خافياً، أنّ القصد حجم القوة التي يمارس عبرها الرئيس لحود من موقع الرئاسة دوره في تفاصيل قضايا الدولة وشؤونها وهو شيء لم يعتد الرئيس الحريري على مثله مع الرئيس الياس الهراوي، وتفسير الحريري لاتفاق الطائف يضع هذه الممارسة خارج الطائف، ويعتبر أنّ مصدر القوة هنا هو حجم الدعم الممنوح للحود من الرئيس السوري بشار الأسد، خلافاً لنصائح الذين يديرون باسم سورية ملف لبنان، في مرحلة ما قبل تكليف العميد رستم غزالة مسؤولية لبنان.
كلّ ما عدا الرئيس الحريري كانت القضايا الداخلية ثانوية وهامشية في أسبابه الموجبة لرفض التمديد، وكانت السياسة الخارجية والموقع الإقليمي للرئيس لحود قضيتهم، خصوصاً علاقته بسورية والمقاومة في السياسات الإقليمية، بصورة كانت برأيهم تحرم لبنان من علاقات تاريخية ودعم أصدقاء تقليديين، هم بصورة خاصة السعودية التي اشتبك معها لحود على أعلى مستوى أثناء قمة بيروت العربية حول مبادرة ولي عهدها الذي صار ملكاً في ما بعد الأمير عبد الله بن عبد العزيز، وإصراره على إدخال بند واضح حول حق العودة للاجئين الفلسطينيين، ومثلها فرنسا وأميركا، المختلفتان مع سورية والمقاومة بقوة، خصوصاً في ضوء حرب العراق وتردّداتها، ويجب التوقف بنزاهة أمام التمايز بين خطاب الحريري المناوئ للتمديد وخطاب من كانوا يشاركونه الرأي. كان واضحاً أن المتمايزين من البطريرك نصرالله صفير إلى النائب وليد جنبلاط اللذين جعلهما مروان حمادة عنوان شهادته في تنامي الحملة على سورية، مضيفاً أنّ الحريري يشاركهما الرأي من دون سند للاستنتاج الذي يعبّر عن محاولة مفتعلة من حمادة لطمس حقيقة عميقة في سلوك الحريري. النزاهة تقتضي القول إنّ الرئيس الحريري لم يكن يشارك سواه أسبابهم من دون تصويره في موقع تقليدي يشبه أياً من أصدقاء سورية، فقد كان الحريري يجيد توظيف معارك الآخرين التي يعتبرها دونكيشوتية، تصارع طواحين هواء بلا جدوى، ليقطف ثمارها هو في معاركه المدروسة، وأنا هنا لست لأرتكب خطيئة حمادة نفسها في ادّعاء معرفة ماذا كان في سرّ الرئيس الحريري تجاه سورية، لا عاطفياً ولا سياسياً، رغم أنني أستطيع القول سياسياً إنني واثق من عزمه على تخطي أيّ مخاطرة بالصدام مع سورية، بعد أن يخوض معارضته حتى اللحظة الأخيرة ما قبل الاشتباك. فقد كان الحريري مستفيداً من حجم معارضة سواه لأسبابهم، مقدّماً هذه المعارضة والأسباب، تحت شعار انظروا ماذا ستكسب سورية من التمديد، إنها تمنح خصومها حججاً إضافية للتعبئة ضدّها مثل بكركي، وتكسب خصوماً جدداً كان ممكناً تفادي خسارتهم كأصدقاء كوليد جنبلاط، ومن جهة مقابلة كان يعتبر أنّ الوصول إلى اللحظة الفاصلة سيجعله يكسب معركة إسقاط التمديد، ليقول للذين شاركوا في الحملة متمايزين عنه في المبرّرات، حسناً حققنا معاً هدفاً يمكن البناء عليه فدعونا نهضمه ونستوعبه قبل أن نبدأ معركة أخرى، وإلا نخسر ما كسبناه، ويقول لسورية إذا فاز بإسقاط التمديد، ها هي الحملة على الدور السوري تتراجع لأنّ السبب الذي أشعلها هو الخوف من التمديد، وهكذا كان الحريري يعتبر دعاة المواجهة مع سورية لإسقاطها في لبنان من باب التمديد دعاة معارك وهمية لكنهم وقود مفيد لمعركته الرئيسية لكسب سورية في صفه لإسقاط التمديد.
كان ثمة اتفاق غير مبرم، لكنه قام بالفهم الضمني، بين سورية التي تقود الاستحقاق الرئاسي بعناية وحساسية التعامل الغربي معها، وبين الرئيس الحريري المتقاطع بقوة مع هذه المناخات الغربية والسعودية. مضمون هذا الاتفاق، وهنا أقصد بالاتفاق صراع الرهانات، الحريري يراهن أنه إذا حصل على بارقة أمل بصرف نظر سورية عن التمديد للرئيس لحود، فهو قادر أن يحمل هذا الإنجاز لمن يشاركه في الداخل للحرب على التمديد، ويدعوهم إلى التهدئة واعداً بأنّ الرئيس الجديد لن يمنح سورية ما كان سيمنحها إياه الرئيس لحود لو مدّدت ولايته، ويستطيع أن يذهب إلى باريس وواشنطن والرياض، ليقول أياً كان الرئيس البديل فرئيس الحكومة سيكون هو صاحب القرار الفصل، وآثار معركة التمديد، ستجعل الرئيس الجديد ضعيفاً وعاجزاً عن تفادي ملاقاة مناخ البحث في تطبيق اتفاق الطائف، لجهة إعادة الانتشار العسكري السوري في لبنان، وهو يعلم أنّ هذا كان سيحدث لحساب العلاقة مع الرئيس لحود إذا مدّدت ولايته، بقرار من الرئيس بشار الأسد بتخفيف منهجي للوجود العسكري تمهيداً لخروج كامل للقوات السورية من لبنان، لكن في مناخات من الهدوء وليس تحت الضغط والتهديد. ويظن الحريري أنّ منطقه سيلاقي القبول في عواصم الغرب والسعودية، لصرف النظر عن المواجهة المفتوحة مع دمشق، التي كان يظن أنه قادر على التوجه إليها وبيده إنجاز تخليصها من ورطة اشتباك دولي إقليمي، من دون خسارة الرئاسة اللبنانية الموالية.
حدث أن تكلم الرئيس الحريري معي مراراً بين شهري حزيران وآب، وبصورة مفصّلة، ما يجعل ما قلته أكثر من مؤكد، من كلامه وليس في سرّه، وحدث أنني مرة على هواء إذاعة «صوت لبنان» مع الإعلامية وردة الزامل في يوم عيد الجيش أجبت عن سؤال، حول ماذا لو قرّرت سورية السير بالتمديد، فقلت إن الذين يطرحون اعتراضاتهم على التمديد من اعتباراتهم اللبنانية سيلتزمون بقرار سورية لأنهم لا يريدون كسر إرادتها في لبنان، وأما الذين تشكل هزيمة سورية والعداء لها قضيتهم فبالتأكيد سيبقون على مواقفهم، ولدى السؤال والرئيس الحريري كيف سيتصرف، فقلت بالتأكيد سيلتزم، فكلمني الرئيس الحريري بعد اللقاء متسائلاً ألم يكن ممكناً عدم التصريح بذلك ولو كان صحيحاً، لماذا توصل رسالة عدم ثقة بمواقفي لمن يقفون ضدّ التمديد، وكأنني سأبيعهم ليتردّدوا في مواصلة مواقفهم التي يبنون حماستهم لها بالاستناد إلى مواقفي وأبني على مواقفهم مناخاً سيساعد في جعل سورية تتفادى التمديد، فقلت هل ترغب دولة الرئيس بأن أوضح، أنّ ما قلته هو مجرّد استنتاج شخصي مبني على قراءتي السياسية لعلاقة الرئيس الحريري بسورية وليس موقفاً سمعته من الرئيس الحريري، الذي يعبّر وحده عن موقفه، فقال أبداً فهكذا نوصل رسالة عكسية لسورية بأنني أريد مكاسرتها وليس السعي لإقناعها واقعياً بأضرار التمديد وحجم الأذى الناتج منه بسبب حجم المعارضة التي سيولدها والتي ستتعاظم يصير عنوانها المواجهة مع سورية إذا تمّ التمديد، وأضاف في المرة المقبلة إذا تعرّضت لسؤال مشابه آمل أن تكتفي بالقول اسألوا الرئيس الحريري فهو يعبّر عن موقفه وحده.
عندما قرّر الرئيس بشار الأسد تظهير اسم الوزير والنائب جان عبيد كمرشح معتمد للرئاسة، وأراد اختبار حقيقة موقف الغرب ومصير الحملة التي بدأ تنظيمها في الكواليس الدولية لاستصدار قرار أممي ضدّ سورية ووجودها ودورها في لبنان، صار الرئيس الحريري في حرج، فعليه ليضمن ترجمة التوجه، وتحوّله إلى قرار، أن يحصل على ضمانات خارجية وداخلية من المشاركين في الحملة على التمديد أنّ الحرب ستقف على سورية، ولما جاءت كلّ الإشارات الخارجية، معاكسة، ومضمونها أنّ أي رئيس سينتخب في كنف العلاقة اللبنانية السورية سيعتبر سبباً كافياً لصدور القرار ومتابعة المواجهة. خسر الرئيس الحريري رهانه، وشعر بالإحباط، فقد خانه من يفترض أنهم حلفاؤه وهم الذين قال لي إنهم عاملوه بعد سيره بالتمديد كأنه قد خانهم، لكن الحريري شعر هنا بضعف تحكمه بقواعد اللعبة، وصار الميل السوري يترجح لصالح العودة إلى خيار التمديد، ضمن نظرية عدم تغيير أركان الحرب في قلب المعركة، التي لم يعد ممكناً تفاديها، فصارت معادلة الحريري أصعب لصرف النظر عن التمديد، لأنها تنقض ما اسميناه بالاتفاق الضمني على قواعد اللعبة بين الحريري وسورية دونما تفاهم مسبق، مقدماً ضمناً معادلة جديدة في لحظة لم تعد تسمح بشراء حظوظ جديدة للعودة إلى مقاعد اللاعبين، وصاغ الحريري خطابه الجديد وفق معادلة، الجو سيء خارجياً وعلى سورية مواجهته، فهل تواجه بمفاقمة الوضع الداخلي المناوئ أم بتحييد الممكن تحييدهم، متابعاً إنّ صرف النظر عن التمديد سوف يعني تقوية موقع من يريدون الدفاع عن سورية من أصدقائها وأنا في مقدمتهم، وتفادي التمديد سينفس احتقاناً متنامياً في الداخل والخارج، وإذا استمرت المواجهة سيكون موقع سورية أقوى، لكن هذا الاجتهاد لم يكن يعطي الحريري القوة التي كان يملكها يوم كان يبدو قادراً على المساهمة في مقايضة عنوانها صرف النظر عن التمديد مقابل صرف النظر عن الحرب، وهي مقايضة قد سقطت.
عندما حان الأوان وسارت الأمور نحو التمديد وتصرّف الحريري على النحو المعلوم بتأييده، وكانت جلسة كتلته النيابية مسرحاً لمواقف تقدم خطابه في تفسير معادلة الرفض والقبول للتمديد، بربطهما بمعادلة الحرص على عدم كسر العلاقة بسورية، صار الاستحقاقان القادمان هما رئاسة الحكومة والحكومة، ومن بعدهما قانون الانتخابات وصولاً إلى الانتخابات النيابية واللوحة التي رسمتها الصراعات الداخلية على خلفية ما يجري في الساحة الدولية والإقليمية ومحوره الحرب على سورية.