جمهورية الهيئات الاقتصادية المتحدة

نسيب أبو ضرغم

كنتُ أهيّئ عام 1981 رسالة ماجستير في كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية، واستلزم إعداد الرسالة إجراء مقابلة مع أحد أعضاء لجنة الرقابة على المصارف في مصرف لبنان. دخلت عليه وعرّفته بنفسي وبما أريد أن أطرحه عليه، حول مدى التزام المصارف اللبنانية بدفع ما يترتّب عليها من ضريبة على أرباحها. ابتسم ومدّ يده إلى درج على يساره، وتناول نسخةً من قانون النقد والتسليف وقال إنّه لا يحق له أن يصرّح، وإن القانون يمنعه من ذلك، إلاّ أنه أردف قائلاً: الآن أريد أن أجيبك عن سؤالك بصفتي مواطناً لبنانياً، إنهم أي المصارف، لا يدفعون ليرة لبنانية واحدة! تشعَّب الحديث حول موضوع الرسالة، واستأذنته بالخروج، وأذكر جيداً أنه لحق بي إلى الباب مردفاً: انتبه، لا يدفعون ليرة لبنانية واحدة على أرباحهم.

أتذكر اليوم هذه الحادثة، فيما المصارف اللبنانية التي تعيش جنة مصرفية حقيقية في لبنان لا ترى مثيلاً لها في أي بلد في العالم. أتذكّر ذلك، في وقت كشفت المصارف عن بعض سلاحها في وجه أصحاب الحقوق من جهة وبوجه الدولة. إنه الأمر الذي جعلنا نقف أمام دولتين، واحدة مُعلنة ننتمي إليها ونريدها، وأخرى مُضمرة نَمَت على حسابنا حتى استعصت على السؤال.

المصارف وأرباحها، مع سائر الهيئات الاقتصادية، ظهرت وكأن لها القول الفصل في الاقتصاد الوطني، وفي التقرير في ما إذا كانت لنا حقوق أم لا.

قدم إلينا مشهد الهيئات الاقتصادية والمصارف صورة جمهورية متكاملة على المستوى الاقتصادي والمالي، واستطراداً السياسي في أحيان عديدة. جمهورية موحدة تعرف ما تريد تقبض على ثروات اللبنانين من «فقش الموج» إلى آخر حبة تراب في لبنان.

في كل مرة تشعر هذه الجمهورية بأنها مطالبة بدفع بعض ما عليها من حقوق تراها تستنفر قواها، وقواها متعددة الموقع، ليس في نطاق نشاطها المهني والعملي بل يتعدى ذلك إلى الندوة اللبنانية النيابية، فيظهر بعض نوابنا كأنهم ممثلون لهذه الهيئات وليس لمصلحة الشعب عامة وناخبيهم خاصة. هم نواب عن هذه الهيئة يرعون مصالحها بأشفار عيونهم، يحاربون حربها، ويشهرون سلاحها في وجه أصحاب الحق، وفي وجه الموكّلين، بوجه الفئات الشعبية.

لو استعرضت الحجج المطروحة من قبل هذه الهيئات لرأيتها أقل حبكاً وأقل تركيزاً من الحجج التي يعرضها بعض فرسان المجلس النيابي الذين صادقوا في الماضي على إقرار قانون «السوليدير»، وما أدراك ما قانون «السوليدير» الذين يشيحون بأنظارهم عن دوره في سرقة المياه البحرية وتحويلها إلى يابسة يبنون عليها مشاريعهم السياحية.

ملايين الأمتار المربعة التي اقتطعت من بحر لبنان وطمرت، ها هي الآن ملك شركة لا يعرف إلاّ الله والراسخون في العلم أصحابها الحقيقيين! بنوا على مياهنا أبراجهم، فهل يدفعون للخزينة إيجار هذه الأرض المغتصبة؟

السؤال، هل ثمة أحد في الجمهورية الدستورية جمهوريتنا يستطيع أن يضع حداً لشركة السوليدير بتمددها في البحر، أم أن طموح الشركة بالوصول إلى قبرص براً أمراً يجب أن نتجند جميعنا لتحقيقه؟

الناتج القومي في لبنان كله في خدمة المصارف لإيفاء فوائد ديون الدولة. كلنا أجراء لدى المصارف التي هرّبت إليها أموال المكلف اللبناني في بداية التسعينات يوم تمّت الاستدانة من المصارف بفائدة 45 وأين هو المال المستدان؟

هي الآن تملك البحر، تطمر متى شاءت، وأنّى شاءت، لا حسيب ولا رقيب، وأني أتحدى أن تستطيع الدولة أن تقدم إلى الشعب اللبناني رقماً عن المساحة التي اغتصبتها «السوليدير» من مياه الشعب اللبناني في البحر.

سلسلة الرتب والرواتب أضحت في نظر جمهورية الهيئات الاقتصادية وبعض نوابنا كفراً يمارسه أبناء الفئات الشعبية على مختلف مواقعهم الوظيفية والعملية، الكفر الذي لا بد من إنزال العقوبة بأصحابه. أما أن يُهرّب من أموال الخزينة ألف وأربعمئة مليار ليرة لـ«نسوان» النواب تحت عنوان الجمعيات «الخيرية» فهو الإيمان بعينه، وهذا الرقم وحده يغطي أكثر من ثلث السلسلة.

أفهم أن تكون الدولة الدستورية عاجزة عن مواجهة دولة الهيئات الاقتصادية، لكن ما لا قدرة لديّ على فهمه هو أن يكون بعضٌ من هذه الدولة يعمل بالأجرة لدى دولة الهيئات الاقتصادية.

في هذا السياق نقول: لو كان للهيئات الاقتصادية بعد نظر لكانت المبادرة إلى إرساء سلام اجتماعي ولو على حساب نزر يسير من فوائد أموالها، فبالسلام الاجتماعي يمكن أن تمنع وقوع المحظور، ليس هذا بالطبع الحل الذي نؤمن به، لكن ما أردت قوله هو الإشارة إلى العماء الذي تعيشه هذه الهيئات والناتج من الجشع المتوحش المتأصل في عملية السطو على ثروة الشعب.

حذار… حذار… أيها الجشعون… فالغضب المؤجل لن يبقى مؤجلاً…

رحم الله أبا ذر الغفاري حينما قال:

أعجب ممن لا يجد خبزاً في بيته، كيف لا يحمل سيفه ويخرج على الناس.

لا تدعو حدّ اللقمة يلامس حدّ السيف.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى