في شاعريّة الحزن…!
جمال قصودة
الشّعر من الشّعور وهو فعل تعبيريّ لغويّ بالأساس، لكنّ منطلقه وقادحه شعور باطنيّ خالص يتأسّس على التفاعل بين الإنسان وأحاسيسه وبين الإنسان ومحيطه: هذا التفاعل قد يكون تفاعلاً باطنياً/داخلياً فيه جملة الأحاسيس والغرائز والملكات أو يكون تفاعلاً خارجيّاً مع المحيط والواقع ـ أي مع الأشياء الخارجة عن الذّات المبدعة ـ منطلق الفعل الإبداعي جملة من الأحاسيس والمشاعر الداخليّة المبهمة التوّاقّة للإفصاح والكشف بهدف التصعيد أولاً والتخلّص من الأعباء التي قد تسكن الذات المبدعة. والتصعيد هنا تصعيد جماليّ وهو تحويل وإعادة تشكيل للواقع أو للدواخل المعتمة وهذا ما يؤكدّه تزيفيتان تودوروف بقوله: «الأدب بإمكانه تحقيق الكثير، بإمكانه أن يمدّ لنا اليد حين نكون في أعماق الاكتئاب، ويعينننا على أن نحيا… كما يستطيع أن يحوّل كلّ واحد منّا من الدّاخل».
الشعر بهذا المعنى هو اليد التي امتدّت لتنتشلنا من واقع اكتئابنا أو واقع سعادتنا أيضاً، لأن الذات المبدعة بطبعها ذات شفّافة قد يخدش بلّورها ريح الحزن أو تذهب بها نسمات الفرح والعشق الطفوليّ. ودور الشعر هنا هو تحويل تلك المشاعر الذاتيّة الى مشاهد وصور أكثر موضوعيّة برغم ذاتيّتها وأشدّ جماليّة برغم أوجاعها في أحيان كثيرة، متى نجح المبدع في تحقيق هذا صار المنتج الإبداعيّ وعلى جماليته منتجاً معرفيّاً يدرك من خلاله الإنسان إنسانيته وهذا ما يذهب اليه سعيد الفراع حين يقول: «الأدب هو الشكل الأكثر انفتاحاً لمعرفة الإنسان بواسطة الإنسان». وهذه المعرفة مشروطة بقدرة الشاعر أو الكاتب على الإفصاح عن دواخله ليمسّنا بناره فنأتي منها بقبس.
وبسبب تلك الشفافيّة والحساسيّة الخاصة المرهفة والخيال الخارق ينجح الشّاعر عادة في تحويل حزنه وآلامه الى مادة إبداعية على عكس الإنسان العاديّ – الفاقد للإبداع أو غير المدرك للطاقات الإبداعية الكامنة فيه ولكنّه في الآن نفسه لا يتألم أو يحزن بمعزل عن آلام الآخرين لأنّ الدور الموكول له «هو أن يتكلّم مكان الذين لا يستطيعون ذلك»، وهذا ما يبرّر وجوده على حدّ تعبير البير كامو لهذا فحزنه وألمه مقرون بأوجاعه وأحزانه أوّلاً، وفي علاقة أيضاً بلحظته التاريخية ومحيطه الاجتماعيّ والسياسي وآلام وهموم الإنسانية في مطلقها. فالشّاعر هنا «يحوّل ألمه الى فلسفة في الحياة وإلى تفكير واسع فيما يلاحقها من نعيم وبؤس وسعادة وشقاء. فالألم… لا يتحوّل الى نفسه والحديث عن أوجاعه، وإنّما يتحوّل الى الحياة البشريّة كلّها وما ترتطم به من صخور الشّر والظلم الصّارخ».
تيمة الحزن والشّاعريّة الطافحة:
في أفق حداثيّ يلهج بروح العصر طغت تيمة الحزن على «القصائد الحزينة» وهي المجموعة الشعريّة الثانيّة من ثلاثيّة للشّاعر محمد الخامس بن لطيف موسومة بعنوان جامع «مرافئ الحزن البعيدة»، وبعيداً عن المجاز أو الاستعارات جاء عنوان المجموعة صريحاً مؤكداً الحزن الطّاغي على حيوات الشّاعر. فالشّاعر المسكون بالشّعر فرد متعدّد في حالات وعيه بالوجود في مقابل النصّ الطافح والمشغول بالمنشود، بالمرافئ البعيدة التي لا يملك غير التجديف نحوها، نحو ضفّة المعنى وهي سدرة لا فجيعة فيها.
محمّد الخامس بن لطيف وكأيّ شاعر معاصر يعيش الفجيعة بكامل تجلّياتها وبواعثها:
– فجيعة «رحيل الحمام» – والقول لنفس الشّاعر – والقصد رحيل الأحبة.
– فجيعة «الواقع المحكوم بالتناقض الصارخ»- والمقولة لعلي أحمد سعيد «أدونيس» في كتابه زمن الشّعر.
– فجيعة التخلّف والسقوط من التدنّي والقول للشّاعر جمال الصليعي.
هذه الفجيعة المتعددة في مستوياتها الذاتية والموضوعيّة جعلت الشّاعر يتأرجح في تمزّقه بين ذاته المكلومة ونظام الوجود الخارجيّ الأكثر مدعاة للحزن والبكاء. البحث هنا عن التوازن غاية لا تدرك في ظلّ الفقد فقدان مَن نحبّ وفي ظل النظام الخارجيّ الموبوء الذي يعمّق الفاجعة ويدفع الشّاعر نحو اليأس. ففقد محمود درويش مثلاً جعل الشّاعر يفقد كلّ نقاط الارتكاز فلا الجنوب جنوب ولا الشمّال شمال:
«سيّدي ضاع نصفنا فيك!
ونصف يكابر أن لا يضيع
وألاّ يُوارى وراء احتمالٍ ضئيل».
ونزعم أن الحزن سمة من سمات العصر أدركها شاعرنا، فكتب في سياقها مجدّداً والجدّة تجلّياتها كثيرة وأوّلها كما ذكرنا سابقاً النصوص الجامعة المتعدّدة في مضامينها برغم الحزن الطاغي عليها. فحضور النهد والبنفسجة في نصّ متفجّع طرافة وجدّة وحداثة:
«وأنت الحكايا المريبة
عن نهدها الملكيّ
تتثاءب في الصبح كسلان
مثل بنفسجة تستفيق».
في مدوّنة الشعر العربيّ وفي غرض الرثاء تحديداً يحدث مجازاً أن يرفع الشّاعر من مقام المرثيّ الى سدرة الأنبياء أو الشّهداء لأن الغرض بالأساس يقوم على ذكر المناقب وتعداد المكارم والصفات المحمودة، ولأنّ محمد الخامس بن لطيف شجرة متجذّرة في حضارتها التي كان الشعر نتاجها الأوّل كان من الطبيعيّ جدّاً أن يكون متّبعاً في رفع مقام شقيقه «برهوم» إلى سدرة الأنبياء فيقول:
«تنزّل آياتك البيّنات
وتقرع أجراسهنّ بقلبي
لكم شدونا بها في المغيب
وصلّينا فيها وقوفا
وغيرنا صلّى بجعجعة ونهيق»…
هذا الاتّباع في مستواه الأوّل وبنفس النصّ مقرون بإبداع وتجديد في مستواه الثّاني، لأن الرفع إلى مقام الأنبياء يفترض التجاوز وعدم النزول الى مرتبة أقلّ وإن كان المقام هو مقام شهداء وهم أكرم منّا جميعاً، فيضيف الشّاعر:
«ولستُ أراك شهيداً
ولكنْ يتوق الى موتك الشهداء».
ما سبق بعض الشواهد على شاعريّة الحزن المتعلّق بالبواعث الذاتية كــ»رحيل الحمام» أو فقد الأحبة الأقرباء والمقام لا يتّسع لتقديم كلّ النصوص، ولكنّ تجلّيات الحزن المتعلّق بنظام الوجود الخارجيّ كثيرة أيضاً وتحتاج ملامسة سريعة ندرك من خلالها حجم الفجيعة التي يعيش على وقعها الشّاعر ونقف على شاعريّته، فعبّر استفهام استنكاريّ وفي مناخ صوفيّ خالص يتفجّع الشّاعر قائلاً:
«من أين سيعرفُ أن القاتل في السترة
والمقتول صباه؟
من أين؟
وهذا الدمّ بلا ثأر
والجند يُريك قفاه؟؟».
القول بوجود القاتل في السترة قول صوفيّ يحيل الى نصّ غائب /قول غائب «ما في الجبة إلا الله «للحلاّج ويجمع النقّاد هنا أن النصّ الفاقد للنصوص الغائبة نص خاوٍ لأن النصوص الغائبة تجعل النص مشحوناً بالدلالة وهي دليل امتلاء الذات المبدعة فلهذا السبب طلب من المريد السّاعي لحمل لواء الشّعر أن يحفظ آلاف الأبيات ثمّ ينساها. ولكن حضور النصّ الغائب ها هنا لا ينفي طرافة الصورة الشعريّة المبتكرة التي صار فيها القاتل جزءاً من المقتول وصار المقتول طفولتنا الضائعة.
وفي صورة شعريّة أخرى منسوب الحزن فيها شبه معدوم، ولكنّ شاعريتها عالية يقول فيها:
«كان الفجْـرُ من قدميْه
ينسـلُّ ويبتـدِرُ».
هذه الصورة الشعريّة المركّبة تنمّ عن شاعريّة واعية بأسطورة البعث العشتاريّ في مستواها الأوّل اذ يبعث فيها الفجر/ الخصب من أقدام الحبيب، وتحضر فيها الاستعارة في مستواها الثاني إذ ينسلّ الفجر كسيف من غمده المعتم – وهو الليل – ويبتدر والابتدار هو المعالجة والهجوم السّريع، الصورة الشعريّة عميقة بعمق جراح شاعرنا المتفجّع، ولكنه برغم فجيعته وحزنه نجح محمد الخامس بن لطيف في تحويل أحاسيسه الباطنية الى مكامن للجمال.
هذه «الإطلالة على مدارات» محمد الخامس بن لطيف، إطلالة متسرّعة لا يتّسع المقام فيها لدراسة أو تقديم جميع النصوص الشعريّة الطافحة بالشّعر، فهي تحتاج وقفات بعتباتها، لكن عطر الشعر فيها – بمنسوبه العالي – يجوس بالأرجاء.