عن إبداعات الطبقة الحاكمة…
علي بدر الدين
لا وجود لدلائل ومؤشرات في المديين القريب والبعيد توحي بأنّ لبنان المأزوم تاريخياً وتحديداً منذ تكوّن نظامه السياسي الطائفي المذهبي والزعائمي سينجح في تجاوز رحلة مأزمه المزمنة وينتقل الى برّ الأمان والاستقرار والطمأنينة، أو أنه قادر أقله في هذه المرحلة على إعادة تشغيل محركات مؤسّساته المعطلة والمصادَرة بفعل فاعلين على مدى عقود دخلت بسبب الطبقة السياسية التي حكمت وتعاقبت على كلّ العهود والحكومات والمؤسسات التشريعية والدستورية والقضائية والاقتصادية لاعتمادها نهجاً سياسياً سلطوياً صارماً ومشتدّداً ونظاماً مرصوصاً ومحكماً لاستمرار إمساكها بمفاصل السلطة وحماية مصالحها ومكتسباتها وللحؤول دون خرقه أو حتى الاقتراب منه. وقد نجحت الطبقة السياسية بتكرار إنتاج نفسها في استحقاقات داخلية كثيرة وبتطويع بيئاتها الحاضنة التي استسلمت لأولياء نعمتها وللأمر الواقع السياسي الطائفي والمذهبي، وإن لم ينل بعضها سوى القليل جداً من مكرماتها، باستثناء الأنسباء وذوي القربى و «وصلة الرحم» من الزوجات والبنات والأبناء والأزلام والمقرّبين من السلاطين، وباتت القواعد الشعبية أسيرة التوجهات والأوامر، وتحوّلت إلى دمى لا تتحرك سوى بأصابع مشغليها.
والأسوأ أنّ هذه الطبقة التي تلهي اللبنانيين المستسلمين لأقدارهم ولمشيئة الحاكم أياً يكن بصراعات وخلافات وهمية ومفبركة الهدف منها تحريك واستنهاض ناسها المتعبين والمغيّبين وإقحامهم فيها وهم لا ناقة لهم فيها ولا جمل لتمرير مصالحهم بعيداً عن الأعين وألسنة الناس التي هي أقلام الحق، حتى لا تنغّص عليهم فرحهم العامر بتراكم الثروات وبناء امبرطوريات اقتصادية وعقارية ومالية، في حين أنّ لبنان في ظلّ السياسات المغلوطة وتغليب المصالح الخاصة على مصلحته والشعب وإصرار الطبقة السياسية على اعتماد سياسة الصفقات والسمسرات والفساد، يسير باتجاه الانهيار الاقتصادي وإلى افلاس بلغ حافة الهاوية ونشوء أزمات ومشكلات ضاغطة وتنبئ بمستقبل غامض ومصير مجهول، رغم هذا المسار الاقتصادي والمالي والسياسي الذين ينذر بأخطر العواقب والتداعيات المدمّرة، فإنّ هذه الطبقة الممعنة في سياساتها المعتمدة غير آبهة للأخطار المحدقة بالبلد بدليل ما شهده من صراعات محاور وأحلاف ومصالح منذ ما يقارب الثلاثة عقود أدّت إلى تراكم الديون وشلل المؤسسات ودخل الحرمان والفقر بيوت اللبنانيين، فأذلّ وأهان وأهدر كرامات، واستفحل الفساد على عينك يا تاجر، والكلّ مغطى ومدعوم ومحمي ورسمت له خطوط حمر ممنوع تجاوزها وإلا وقعت حروب داحس والغبراء الطائفية والمذهبية.
وآخر إبداعات الطبقة الحاكمة تكمن في الموازنة التي تحوّلت الى أزمة، واحتاجت الى عشرين جلسة وزارية لإقرارها رغم عدم رضى بعض القوى السياسية عليها وتحفّظ البعض الآخر، ولم تبلغ خواتيمها السعيدة لأنها تحتاج إلى غربلة تشريعية مع أنّ المشرّعين في مجلس النوات لهم من يمثلهم في مجلس الوزراء، وقد لا يضيفوا جديداً إليها مع إمكانية تعديل من هنا أو إضافة من هناك، ولكن المضمون واحد وهو الخروج بموازنة تقشفية على حساب أصحاب الدخل المحدود والفقراء ولن تكون إصلاحية لأنّ للإصلاح ناسه وهو غير وارد في قاموس الطبقة الحاكمة.
ومن أزمة الموازنة وما سبقها من أزمات تمثلت باستحقاقات انتخابات رئاسة الجمهورية التي لم تكن لتحصل من دون التسوية الرئاسية برعاية وضمانة قوى إقليمية ودولية، إلى قانون الانتخاب الذي لم يكن ليبصر النور من دون أن يكون على مقاس الطبقة السياسية ويساهم في إعادة إنتاجها، إلى الأزمة الحكومية وبيانها الوزاري… كلها مخاضات عسيرة لولادات قيصرية صبّت جميعها في خانة ومصلحة هذه الطبقة.
ومن مفارقات السياسة اللبنانية التي لا قاعدة لها ولا أصول لأنها تعتمد على المساومة والمصالح والتوزيع الطائفي والمذهبي والزعائمي، أن نسمع صراخ الحاكمين بأمرهم وادّعاء الدفاع عن حقوق الوطن والمواطن ومن أجل رفاهيّته، ولكن صداه يبيّن غاياته وأهدافه التي تكمن في التسويات وتقاسم الحصص والمغانم كما يحصل على أبواب التعيينات حيث الصراع على أشدّه بين «ديوك» السلطة ولمن تكون الحصة الأكبر فيها داخل كلّ طائفة أو مذهب ولمن تكون الغلبة، وبخاصة أننا أمام تعيينات دسمة في الإدارات والمؤسسات العامة والمجلس الدستوري ومصرف لبنان والقناصل الفخريين وقطاعي النفط والغاز وغيرها من المؤسسات التي انتهت صلاحية مجالسها الإدارية ولجانها.
وكما يُقال «الجمل بنية والجمال بنية»، هذا المثل الذي ينطبق على القوى السياسية الحاكمة التي لا همّ عندها سوى مصالحها والبلد على شفير الانهيار والمنطقة حوله تغلي وتنذر بأخطار مدمّرة، والإدارة الأميركية وحلفاؤها في المنطقة يهدّدون بصفقة القرن التي من أهدافها توطين اللاجئين الفلسطينيين وقسم من النازحين السوريين والضغط على لبنان للتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب واستهداف المقاومة.
والسؤال الكبير كيف لبلد أن تقوم له قيامة وأن يحيا في ظلّ العقلية السياسية التي تتحكم بمساره ومصيره وأنتجت كلّ الأزمات المآزق والمشكلات التي لا تعدّ ولا تحصى وكيف يمكن خرق جدار وتحصينات الطبقة السياسية في ظلّ الانكفاء الشعبي عن التحركات المطلبة والإصلاحية؟ أعتقد أنّ على القوى التي تدعو الى التغيير أن تعيد النظر وتراجع حساباتها وتبدّل من خياراتها لأنها استنزفت وفشلت.
ولكن الأمل باق والرجاء مستوطن في عقول اللبنانيين الذين لن يقبلوا ببقاء الحال على ما هو عليه وقد آن أوان اتخاذ القرار الحر والجريء قبل وقوع المحظور المدمّر، ولو بعد حين…