أسباب إضافيّة للتوافق الوطنيّ والتفهم والتفاهم
البروفسور فريد البستاني
الأكيد أن هناك إجماعاً لبنانياً في جميع المكوّنات السياسية وبيئتها الشعبية والطائفية على العيش المشترك والتمسك بالوفاق الوطني، لكن الأكيد أيضاً أن متاعب ومصاعب الوفاق تتحرّك في مستنقع من الرمال ما يجعل الحاجة لابتكار أشكال وقدرات تتأقلم مع المتغيرات وتتناسب مع كيفية التعامل مع هذه المصاعب التي تضغط على أطراف الصيغة اللبنانية من طوائف وتشكيلات سياسية وكتل نيابية.
كل شيء يزداد صعوبة على اللبنانيين ما يستدعي سعة صدر متبادلة بين الجميع لتفهّم بعضهم بعضاً والتفكير بروح إيجابية تجاه ما يتبادلون من مواقف وخطاب، وتغليب النية الحسنة في هذه القراءة على الشكوك والاتهامات، فلبنان يعيش أصعب لحظات تمر بها المنطقة التي تحيط به، ويعيش في قلبها والتي لا بد أن تترك أزماتها المتفجّرة آثارها على مكوناته وتطلعاتها ومخاوفها، والتي كثيراً ما تكون متباينة، فالصراع في منطقة الخليج له امتداد لبناني وانعكاسات لبنانية سياسية واقتصادية وطائفية، والحرب في سورية لها انعكاسات وتداعيات أبرزها على السطح قد تكون قضية النازحين بتردداتها الاقتصادية والأمنية التي قد تشكل جامعاً مشتركاً للقلق اللبناني، لكن بدرجات تتفاوت معها نسبة التلقي في البيئات المتنوعة ديمغرافياً وجغرافياً وطائفياً وسياسياً. وقد شهدنا منذ بداية هذه الحرب كيف تفاوتت نسب التلقي وكيفية النظر للموقع من هذه الحرب وأطرافها وتشعباتها.
بالمقابل، فإن الأزمة الاقتصادية تزداد ضغطاً على اللبنانيين وتستدعي تضحيات لتمكين الدولة من الوقوف على قدميها ومواصلة مسؤولياتها، وإنعاش الاقتصاد وإصلاح المالية العامة، في لحظات شديدة الدقة مالياً وشديدة التعقيد اقتصادياً، وإضافة للمقاربات الفكرية والتقنية التي يشكل الاختلاف حول الاجتهادات فيها شأناً طبيعياً، تأتي التباينات الناتجة عن المواقع المختلفة للأطراف السياسية وبيئتها الطائفية من أطراف المعادلة الاقتصادية والمالية، فثمّة مَن يشعر بالتصاقه بالمؤسسة العسكرية ومسؤوليته عن حمايتها أكثر من سواه، وثمة من يخشى من تعرّض القطاع المصرفي لاستهداف او أذى أكثر من غيره، وثمة من يحكمه خطاب اجتماعي اقتصادي لا يسمح له بهوامش تشبه سواه المتحرر من أي خطاب ملتزم بلغة الطبقات.
فوق كل ذلك تأتي السياسة. فثمة من بقي في الحكم عقوداً ومن وصل للحكم حديثاً. وحرارة كل منهما في التعامل مع عنوان الفساد مختلفة، خصوصاً أن هذا المتغير النوعي في الحياة السياسية والطائفية يتمثل بشعور الشريحة اللبنانية التي تنتمي للطوائف المسيحية للمرة الأولى منذ اتفاق الطائف بشراكتها الفعلية في الدولة، مقابل توجّس وتحسس لدى الشرائح المنتمية للطوائف الإسلامية من كيفية إنعكاس هذا المتغير على صيغة الوفاق الوطني والعيش المشترك، سواء في الشق السياسي للشراكة وما يتصل بما يسمّى بالصلاحيات، أو في مجال التعيينات الوظيفية وخصوصاً في الفئات العليا في الدولة والتي تخضع لحسابات دقيقة طائفياً وسياسياً.
قد يكون المرتجى هو الذهاب للدولة المدنية، وقد كان المسيحيون اللبنانيون دعاة علمنة طليعيين، ونظر لدعوتهم في الأوساط الإسلامية كدعوة إحراجية لعلاقة الدين الإسلامي بمفهوم الدولة، فكانت الدعوة بين المسلمين لإلغاء الطائفية السياسية، ونظر إليها في الأوساط المسيحية كغطاء لتحكم التفوّق العددي للمسلمين في تحديد طبيعة التركيبة السياسية وتكوين مؤسسات الدولة، لكن حدث ما أعادنا إلى نقاط أشد حساسية، فقد أدى الظهور المرعب للفئات المتطرفة في البيئة الإقليمية والخشية من طغيانها وتمدّدها نحو لبنان إلى حذر مسيحي من أي تغيير في الصيغة الطائفية يلغي الخصوصية اللبنانية ويدفعها نحو المجهول، في وقتً يقدم لبنان نموذجا للعيش المشترك يتطلع إليه كمثال للحوار بين المكونات المختلفة دينياً في المنطقة والعالم. وبالمقابل أدى ظهور الصراعات المذهبية إلى خشية بين الطوائف الإسلامية من التسرّع بإلغاء الصيغة الطائفية ينتج خللاً في التوازنات المذهبية مع تقدم مشاريع معلنة ومدعومة دولياً لتوطين الفلسطينيين والنازحين السوريين في لبنان.
لبنان يحتاج من قادته السياسيين قدراً من الهدوء والتروي والتفهم والتفاهم، والصبر على ما يردهم من بعضهم البعض، لأن الحلول السحرية غير موجودة، والحديث عن بدائل جاهزة لا يقارب الحقيقة. والمطلوب أن يتجاوز لبنان هذه المرحلة من الحساسية الخطرة في المنطقة والعالم، بهدوء، وأن يسيطر على مسار الأزمة الاقتصادية والمالية بشجاعة، وأن تتغلب الرغبة بالحوار والبحث عن التفاهمات التي تحترم الخصوصيات المتبادلة، وأن يقف البعض منا عند الخطوط الحمراء المؤذية لبعضنا الآخر. وعندما تهدأ العاصفة سيكون متاحاً لنا التفكير بصيغتنا السياسية والسير بخطة مرحلية مدروسة نحو حلم يراودنا جميعاً وهو حلم الدولة المدنية، التي تشكل وحدها جواباً شافياً في مناخ صحي للكثير من الأسئلة الصعبة.
نائب الشوف في مجلس النواب اللبناني