يخاف ولا يستحي
نسيب بو ضرغم
شاءت «حكومة المصلحة الوطنية» هذا العام أن تتجاهل شرف الاستقلال الوطني، ونعني به الشهادة. وكان أولى بهذه الحكومة أن تزيل عن العلم اللبناني اللون الأحمر، فهذا اللون ما كان ليكون على العلم لولا دماء ذاك الشهيد الذي بوقفته في وجه المصفحة الفرنسية مثّل وجسّد وقوف الشعب في لبنان في وجه الاستعمار وظلمه، لولا دماء سعيد فخر الدين.
طيلة عهد الاستقلال وحتى رئاسة الرئيس المقاوم إميل لحود، لم يتذكر هذا النظام وهذه الدولة أن شهيداً سقط في مواجهة الفرنسيين، بل كانت القاعدة الثابتة التجاهل، والتطبيل والتزمير لمن كان له في معركة الاستقلال أن خط اسمه على رقعة العلم، وكفى بذلك المناضلين شرّ النضال.
بلى، الرئيس إميل لحود بدأ زمن الاعتراف بالدم، فكان يضع في كل عام الزهور تعظيماً لهذا الشهيد، وتبعه في ذلك الرئيس ميشال سليمان، أما هذا العام، وليس لدينا رئيس فقد سقط سعيد فخر الدين من لائحة المكرّمين، أسقط الدم، وبقي سواه.
بلى، سعيد فخر الدين قومي اجتماعي، وكان بقيادة قائد الحرس الوطني الرفيق البطل أديب البعيني، وقد روى كلاهما أرض لبنان بدماء الأخوة القومية، بلى: هو قومي اجتماعي، أما إذا كان اليوم في الحكم مَنْ يناصب الحزب السوري القومي الاجتماعي العداء انصياعاً لإملاءات خارجية وداخلية، فهذا لا يقدم ولا يؤخر، ذلك أن سعيد فخر الدين حسبه أنه فلاّح شريف استنبت الأرض ليحيا. هو لم يعرف صهيونياً، ولم يقبض من يهودي، ولم يستقوِ بسفارة. هو فلاّح انتمى إلى عقيدة وحزب صاغا منه شهيداً وكفاه بذلك شرفاً.
رئاسة الجمهورية تكرّم شهيد الاستقلال الوحيد، المكرّس شهيداً بقرار حكومي وببلاغ صادر عن وزير الدفاع الوطني آنذاك، أما رئاسة الحكومة فحساباتها مختلفة، لا مكان عندها لشيء ذي علاقة بالحزب السوري القومي الاجتماعي، فهذا الحزب يسير عكس التيار، والتيار يحقد على مَن يسير في وجهه. خاصة إذا كان يأبى الدعاء «بطول العمر» ويقبل الأكتاف والأنوف.
لقد نسي «أولو الأمر» أن ما من مرة حاولت الرجعة وأسيادها الإطباق على الحزب، إلا وشقّ الحزب طريقه بسيف الدماء. لا شيء يمنع هذا الحزب من معانقة الشمس. شهداؤه ومناضلوه وأعضاؤه هم من طينة مختلفة لا يفهمها سكان السرايات والغرف السوداء.
عندما كان سعيد فخر الدين يقهر الصقيع والظلام والفقر في بشامون وعين عنوب، أين كان هذا الرهط؟ عندما انفجر دم سعيد فخر الدين يزوبع تحت سنديانة عين عنوب، ماذا كان يفعل رهط المكرمين، الذي استجار بالإنكليز يوم أطبق عليه الفرنسيون، مستعمر بمستعمر! أين كان جميع هؤلاء الذين جلّ ما فعلوه أن أسقطوا أسماءهم على رقعة العلم.
هل يوجد في العالم حكومة، تتنكر لدم شهيد استقلالها؟!
هل سجل التاريخ السياسي أن دولة تصرّ أن يكون اللون الأحمر على علمها لأن لها شهيداً لوّن ذاك العلم بدمه، وفي الوقت عينه تسقطه من حسابها، ولمصلحة حسابات!
توضع الزهور على نصب الذين نسّقوا مع الوكالة اليهودية منذ عام 1921 في لندن، وماتوا أوفياء لذلك: ومع الذين جعلوا من أنفسهم سماسرة شراء أراض للوكالة اليهودية، ومع الذين يحرّضون إلياهو بن ساسون على شراء أراضي شيعة جبل عامل ليتم الالتحام بينهم وبين اليهود في فلسطين. كما توضع الزهور على الذي دأب يغذي خزانة حزبه من مال الوكالة اليهودية!
على نُصب هؤلاء توضع الزهور، أمّا على نُصب شهيد الاستقلال فتغيب.
حسناً، لسنا في حاجة إلى زهوركم. نُصب سعيد فخر الدين الشهيد يُكلّل كل يوم بالشمس، تحرسه سنديانة عين عنوب وفيةً لدمائه إلى الأبد، وهو محاط بمهج وأحداق الوطنيين والشرفاء كافة، وهو في جميع الحالات، مُزنّر بزوابع تشرقط من عيون القوميين الاجتماعيين.
حسناً فعَلْتم فقد أكدتم أن هذا النظام يخاف ولا يستحي. ما عرَف الخجل يوماً، فالذي لا يخجل من تغييب شهادة شهيد، هل يُؤْتمن على شيء، وكم هو هذا الشعب اللبناني مخدوع، ينتظر أن يُقدم إليه السراب ماء.
إذا كانوا يتنكّرون للدم الزكي الذي سال لأجل استقلال لبنان، فهل من المعقول ألا يتنكروا لحقوق الناس ولأمن الناس؟! مَنْ يفعل الكبيرة هل يتورع عن فعل الصغيرة؟
ويَسأل شبابنا عن سبب الاستقصاء السياسي المتحكم في هذا البلد. لا يجوز أن يسألوا، وقد تأكد ويتأكد كل يوم كيف تُغيب الركائز الوطنية لمصلحة الفئوية والذاتية والمنافع الخاصة.
إن سعيد فخر الدين الذي تمرّد مساء 15/11/1943 حامياً لكم يوم لجأتم إلى عرينه، ليس في حاجة إلى أن يهبط إليكم، كما هو ليس في حاجة إلى أن تزحفوا إليه. هو هو. جبلٌ يتكئ على جبل مكلّل بالشهادة شامخٌ مثل السنديانة الجارة له، ينظر إليكم من عليائه وهو بجانب سعاده العظيم، يبتسم ابتسامة الشفقة عليكم فيذكره سعاده بقول له قائلاً: أما قلت يوماً: بأننا نعمل للانتصار لهم ويأبون إلاّ الانتصار علينا. قال نعم يا حضرة الزعيم، وهل سينتصرون.
التفت الزعيم إليه مبتسماً، وفهم سعيد الشهيد…