الأدب الوجيز وديناميّة التجديد
أمين الذيب
قد يكون مصطلح التجديد، من أكثر المصطلحات ذات الصِّلة المُباشرة بتفاصيل الحياة الإنسانية كافّة، القائمة بحركيّتها على التطوّر الّذي لازم التاريخ البشريّ المُدوّن، والّذي تسارع منذ عشرات السنوات بشكلٍ يفوق التصوّر والإدراك، ممّا انعكس على نمطيّة الحياة من خلال تطوير القوّة المعرفيّة ووضعها في متناول العامّة بأهون الأساليب المتاحة.
ولكن هل كان التجديد في بلادنا مسألةً طبيعيّةً تُماشي سياق التطوّر الإنساني بانسيابيّةٍ تماهي ابتكارات الفكر وإيغاله في سبر المكنون من الأسرار والطاقات واستنباطه بالاستدلال العلميّ والقياس المعرفيّ الدائم البحث عمّا كان مطموسًا أو خافيًا عن الوعي الجمعيّ؟ وهل واكب المسار التجديديّ في بلادنا النظرة الجديدة للإنسان والكون والفنّ؟ هل لاحظ المتغيّرات الّتي طرأت على المفاهيم الجديدة والرّؤى المُغايرة التي كوّنت امتداداتها التجاوزيّة مُحدِثةً التبدّل الجوهريّ في أبعاد المعنى والآليّات الدلاليّة، بمعنى تبدّل خصائص الفهم والإدراك والتمييز وتطوّرها في الفكر الجديد الّذي انبثق فجّاً لضرورة ابتكار الحياة الجديدة ومقاومة الموت السريريّ القابع في السائد، وكأنّ العالم توقّف هنا وبلغ الكمال فيتساوى بذلك الأدبيّ مع الدينيّ بخلق حالةٍ من الجمود المحمودة والمرضيّ عنها من الباثّ والمتلقي كليهما كتعبيرٍ وجوديٍّ عن الاكتفاء المعرفيّ الّذي لا معرفة يمكن أن تليه.
إذن المسألة تقع في دور الشّعر وفاعليّته من وجهات نظرٍ متعدّدة. وهذا يرتبط حكمًا بتقافة الجمهور وميوله وأولويّاته، وكيف يرى إلى الحياة، في حالتنا المجتمعيّة المحكومة بالتفسّخ والانهيارات والتشلّقات الّتي أحدثت هوّةً كبيرةً بين الانبلاج والرّكود يصلُ حدّ العداوة والإنكار، إلّا في بعض الحالات الّتي تؤمن بالحوار الموضوعيّ القائم على هاجس المعرفة الدافعة حكمًا الى التطوّر، ما لم تعترضها الحالات الذاتيّة التي أضحت عالية المنسوب في مجتمعاتنا بسبب غياب الوعي الوطنيّ الحضاريّ وقيام الوعي الفئويّ الطائفيّ والمذهبيّ والإثنيّ بتجليّاته كافّة، السّؤال الأكثر إلحاحًا: هل من مكانٍ للشعر في ظلّ هذا الواقع؟ وهل ما زال الشّعر حالةً روحيّةً تؤثّر بتراكمها في بناء ثقافةٍ منفتحةٍ على المستقبل أم وقع رهينة السائد والمقدّس الّذي أقصى مداه النظم والتّكرار ضمن قوالب جاهزةٍ لم تعُد قادرةً على تلبية اختلاجات الرّوح الذاهبة إلى ما هو أبعد من العصر والزّمان، بتجاوزه اللغة الشعريّة العاديّة الّتي استقرّت عليها الذائقة العامّة إلى الدلالات الإيحائيّة والرمزيّة، وكيف يمكن أن نخلق الوعي التفاعليّ بين الشاعر والجمهور إذا لم يتحقّق الوعي أو التقارب بين كليهما، والأدهى من ذلك كلّه أنّ الجمهور أو المتلّقي لم يعُد يرغب إلّا سماع ما يعرفه وتستقرّ ذائقته عليه من دون بذل أيّ جهدٍ وكأنّ العلاقة علاقة تلقينٍ غرائزيّة تستثير فيهم العاطفة البدائيّة ولا تخاطب العقل إلّا بما كان معروفًا لديهم ومألوفًا.
إنّ استمرار حالة الركود والركون باتت تشكّل حاجزًا معرفيًا بين الشاعر والناس، حيث إنّ الشّعر لن يكون مجديًا في حالات التخلّف والانحطاط الفائق، فالشعر يحتاج لمنسوب وعيٍ يدخل منه إلى الروح المجتمعيّة فيؤثر فيها وتؤثّر فيه يجب أن نعترف أنّ عوامل عدّة ساهمت وأثّرت في استلاب الروح الثوريّة لمجتمعاتنا وأحالتها إلى حالة جفاءٍ مع روحيّة الحركة والحيويّة التي لا يمكن أن يتطوّر مجتمعٌ إلّا من خلالها. فالشعر بأزمانه كافّة اتّصف بالمداورة والغموض لاكتنازه فكرًا فلسفيًا يرى إلى الحياة بأبعادها المكثّفة ذات الدلالات الوجوديّة المكبوتة أو المهمشة لدى السواد الأعظم من العامّة. فإذا كان الشعر بهذه الذاتية بكينونته الباحثة عن الحق والخير والجمال والعاملة على تفجير مكامن الوعي الإنساني، لا بدّ من تعميم المعرفة الموصلة الى قدرٍ كبيرٍ من الثقافة النقديّة عند المتلقّي كي يستوي مدى الشعر الفكريّ والفلسفيّ. المسألة هي أبعد من الشّكل الثابت، أبعد من قيمومة اللّغة المتحوّلة بكينونتها بتحوّل دلالاتها ورمزيّتها واستهدافاتها الفكريّة الدائمة الحركة والحدوث. المسألة إذن هي صراعيّةٌ تحرريّةٌ، أن نتحرّر من أثقال كثيرة استوطنت كواهلنا وأفكارنا وتحكّمت بقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا ومُثلنا العليا فأحالتنا بطريقةٍ ما إلى ما يشبه أهل الكهف، وإلى مجتمعاتٍ استهلاكيّةٍ حتّى بالفكر والفلسفة والأدب ومعظم الفنون الّتي يفترض أن تتكوّن منها حضارات الشعوب والأمم. نحن شعوبٌ تنازلت عن حقّها في مسار التطوّر الإنسانيّ، وتحوّلنا إلى شعوبٍ استهلاكيّةٍ غير منتجة، وتركنا للآخر أن يتحكّم بمصائرنا ويدير حياتنا كما يتناسب مع مصالحه.
ممّا تقدّم ومن سواه، نشأ الأدب الوجيز، حركة تجاوزيّة جديدة، تنظر إلى المستقبل المحفوف بالالتباس، بعينٍ رأت الماء الرّاكد، فاستحضرت حجرها لترميه في بركة الواقع الرّاهن، بمنطلقاتٍ فكريّةٍ تنظيريّةٍ تؤسّس لواقعٍ تعبيريّ. فالفكر لا يُمثّل المجتمع بقدر ما يُعبّر عن مكامن الروح الحضاريّة ويحرّرها من السكون لتبتكر فضاءاتها وتخلق عالمها وواقعها المُتخيّل كنظرةٍ واعيةٍ إلى مسار التجديد الضروريّ والحتميّ.
إنّ الواقع السياسيّ الاقتصاديّ الاجتماعيّ العربيّ، لا يتقبّل منصّاتٍ تجديدية، كما كان حاله تاريخياً، لذلك نجد أننا في مخاضٍ دائم، أكان على مستوى الابتكار أم على مستوى النقد أو اللغة، تقوم حركتنا على صياغات لغوية تعتمد التكثيف والاختصار باللغة أي العودة من اللطافة إلى الكثافة وتحرير النص من حمولاته الزائدة والمُرهِقة وإطلاق المعنى بتجلّياته الفكرية والفلسفية وأبعاده الدلالية المغايرة حتى للحداثة كما يسمّونها الآن، نحن إذن في مرحلة نحاول أن نتجاوز كلّ السائد، لنبني منصّاتٍ فكرية جديدة، ولا ضير إطلاقًا من غموض النص. فكل ما هو واضح ومباشر لا يمكن أن يرتقي لمرحلة الشعر أو الشعرية. أمّا النقد، فمسألةٌ بالغة الخطورة والحساسية، لانعكاس غيابها أم ضعفها أو تراخيها الوظيفيّ، ورغائبيتها الّتي أوصلت أدبنا الى ما هو عليه من تراجعٍ وإسفافٍ وسطحيّة إلا عند القلّة التي تحترم حضورها أكان في الدواوين أو الكتب أو على صفحات التواصل الاجتماعيّ، إنّ ضحالة الإنتاج النقدي أو الفكر النقدي الفلسفي والذي بمعظمه مقتبسٌ عن الفكر الغربي وما يحدث نقديًا ليس سوى عملية إسقاط فكر قام على خصائص وروحية مجتمع غربيّ على أدبنا العربي من دون الأخذ بعين الاعتبار عدم التطابق والمُغايرة والاختلاف، ممّا أدى الى اضطراب النصوص النقدية والأدبية وبخاصة الشعرية منها، فلا أدب دون نقدٍ علمي موضوعي يستطيع التعامل مع المكبوت في النص وغير المعلن أو المسكوت عنه، ولا على الحالات الإنسانية والدينية والاجتماعية الغامضة عادة، ولا تصويب الانحراف أو الخلل البنيوي في المحتوى وفي الشكل أحياناً كثيرة. فالمدارس النقديّة بنيويّة أم تفكيكية أو سواها نرى إليها ماضوية غير قادرة أو مؤهلة لبناء مسار نقدي يمكن أن نركن إليه أما مسألة اللغة لا يمكننا أن ننظر إليها سوى من خلال قدراتها على الإحاطة بالحالات الشعورية والفكريّة وقدرة مفرداتها على الاستنباط الدلاليّ التعبيريّ عن مقتضيات العصر والزمان.
قد يواجه الأدب الوجيز الكثير من الحالات الاعتراضيّة النافية، لقدرته على التجديد والابتكار. وهذا مألوفٌ ككلّ جديدٍ غير مقبول الآن إنما سيكون مقبولًا كي يشكّل تموضعه كنوعٍ أدبيٍ جديدٍ نشأ لضرورات التطوّر والتجديد.
بهذه الروحيّة الصراعيّة نعقد مؤتمرنا النقديّ في بيروت بمشاركة أكاديميّين متخصّصين يتوافدون من ثماني دولٍ مشرقيّةٍ ومغربيّةٍ لإطلاق حوارٍ جديٍّ ومعمّقٍ ومستهدف الخروج من حالة الرّكود إلى حالة الحيويّة الفكريّة الحواريّة لفتح ثغرةٍ عريضةٍ في جدار السّائد.
مؤسس منتدى الأدب الوجيز