مئة عام على قصيدة «المواكب» لجبران خليل جبران
سليمان بختي
كتب جبران خليل جبران 1883- 1931 قصيدة «المواكب» عام 1919 واليوم يمرّ على كتابتها مئة عام، وهو سادس كتبه بالعربية. وقد نشر جبران قصيدته في كتاب مستقل مزين بالرسوم الرمزية على طريقة رباعيات الخيام بمساعدة الناشرين الأميركيين والبريطانيين. «المواكب» هي قصيدة جديدة فلسفية تأمليّة طويلة، وتتألف من 203 أبيات. ولم يعرف الشعر العربي قصيدة فلسفية بمثل عدد أبياتها. تنقسم القصيدة إلى مواضيع الخير والدين والعدل والعلم والسعادة والطبيعة المثالية المنبثقة من لبنان. إنها مواكب الناس في حياتهم يعبر فيها جبران عن آرائه في الطبيعة والناس والأشياء. وقد زيّنت ريشة جبران بعض صفحات القصيدة برسوم الطبيعة الساحرة. تتكون القصيدة من ستة مقاطع وكل مقطع يتألف من ثلاث مراحل. المرحلة الأولى: الموضوع كما هو في الواقع، والمرحلة الثانية: الموضوع حسب رأي الكاتب، والمرحلة الثالثة: الموضوع حسب صوت الغاب أو صوت الناي.
كتب مقدمة القصيدة صديق جبران في الرابطة القلمية نسيب عريضة وفسّر فيها أغراض القصيدة أبعد مما في أبياتها بقوله: «ليتصوّر القارئ قبل إقدامه على مطالعة الكتاب مرجاً واسعاً في سفح جبل. وهناك يتلاقى رجلان بلا ميعاد إحدهما شيخ والآخر فتى. الأول خرج من المدينة والثاني من الغاب. أما الشيخ فيسير بخطى ضعيفة متوكئأ على عصاه بيد مرتجفة وفي غضون وجهه وشعره الشايب المسترسل ما ينم على أنه عرك الدهر وعرف أسرار الحياة وذاق منها مرارة أوصلته إلى التشاؤم. ويصل هذا الشيخ إلى المرج فيستلقي هناك على العشب بقصد الراحة. واذ فتى جميل غضّ الإهاب وقد لوحت الشمس بشرته وأكسبته الحياة جذلاً وانبساطاً خرج من الغاب يحمل نايه فيسير حتى يصل إلى مكان راحة الشيخ فيضطجع بجانبه فلا تمرّ دقيقة سكون الا تراهما قد بدءا بالحديث فيأخذ الشيخ بإبداء نظراته في الحياة كما يراها طرفه المتشائم وخبرته المحنكة. فيرد عليه الفتى شارحاً في الحياة كما تراها عينه الجذلة المتفائلة».
قصيدة «المواكب» متمرّدة على الحياة نفسها مثل مؤلّفها. يريد الشاعر العودة إلى الطبيعة نافضاً القيود والأغلال. «ليس في الغابات دين
لا ولا الكفر القبيح».
وفي القصيدة ذلك التوق إلى عالم السعادة والكمال. ولكن هناك واقع المجتمع المفطور على الشرّ والظلم:
«الخير في الناس مصنوع اذا جبروا
والشرّ في الناس لا يفنى وإن قبروا
والعدل في الأرض يبكي الجنّ لو سمعوا
به، ويستضحك الأموات إذا نظروا».
ويسخر من العدالة والمساواة بقوله:
«فسارق الزهر مذموم ومحتقر
وسارق الحقل يدعى الباسل الخطر
وقاتل الجسم مقتول بفعلته وقاتل الروح لا تدري به البشر». وأيضاً في سيطرة القوي على الضعيف: «وفي الزازير جبن وهي طائرة وفي البزاة شموخ وهي تحتضر».
هذا العالم المنقسم في ثنائياته وحده جبران في الطبيعة متخذاً نغم الناي رمزاً لهذه الوحدة التي فيها خلاص الإنسان الوحيد. ويرى الدكتور محمد نجم: «ان جبران اختار الناي لأن الكمال الحقيقي كائن في موسيقى الناي لأنها جسم وروح معاً، وتحتوي كل المظاهر الايجابية من صلاة وعدل وعزيمة وعلم ومحبة. والمعروف أن جبران أحبّ الموسيقى حباًّ جمّاً وقد افتتح حياته الأدبية بمقالة «الموسيقى» مسبغاً عليها هالة القداسة.
ولقد لاحظ إيليا أبو ماضي في رثائه لجبران أنه كان «كلّما سمع العود أو القانون أو الكمان غصّت أجفانه بالدموع، وأنه رجل ذاب في الفنّ والفنّ ذاب فيه». وهكذا يدرك جبران أن الخلود في الغناء حين يقول «أعطني الناي وغني فالغناء سر الخلود وأنين الناي يبقى، بعد أن يفنى الوجود».
وقد غنّت فيروز من قصيدة «المواكب» هذه الأبيات تحت عنوان «أعطني الناي وغني» وهي من ألحان نجيب حنكش وتوزيع الأخوين الرحباني.
وأخيراً، في هذه القصيدة نرى يقين جبران في رومنطيقيته ودعوته إلى العودة إلى الطبيعة على غرار روسو ونيتشه وبليك. ولكن من ينجو من هذه الصراعات هو الذي يتمثله جبران في قوله: «فهو النبي وبرد الغد يحجبه عن أمة برداء الأمس تأتزر».
قصيدة «المواكب» هي جزء من مسيرة جبران نحو فرادة وحضور وخلود في الفنّ لا تنال منه الأيام ولا السنين. وتثـــبت أيضاً أن جبران لبث قبل «المواكب» وبعدهـــا متمـــرّداً في آرائه ورسومه وكتبه وإبداعاته ونبياً في ذاته حتى الساعة الحادية عشرة الا عشر دقائق من ليل الجمعة 15 نيسان 1931 في غرفة مستشفى سانت فنسنت، نيويورك حتى صفقت أجنحته المتكسرة الملتئمة في سماء تشبه جبل الغيم الأزرق الذي أبصره جبران لأول مرة في وطنه لبنان.