عندما تلاقت الرؤى مع الطموح والعجز… أصابتهم الكارثة!
حسن شقير
في محاولة لفهم المعطى الكبير الذي تمخض عن سقوط ورقة التوت من على جسد ترامب العاري، والذي تمثل بإحجامه عن الاندفاع في المضيّ بقراره بالردّ على إسقاط الحرس الثوري للطائرة الأميركية المسيّرة في المجال الجوي الإيراني، وبعيداً عن تلمّس الآثار الإستراتيجية لهذا المعطى في هذه العجالة، والذي لا شكّ بأنّ مطولاتٍ كثيرة ستكتب حوله.. ولذلك فإنني أعتقد بأنّ الفهم الدقيق والصحيح – وبعيداً عن الشطط والعنتريات وحتى التمنيات – للأسباب الفعلية لإتخاذ ترامب لهكذا قرار مفاجئ، يساعد المتابع والراصد لمآلات الأمور في الحاضر والمستقبل، ولدى مراكز القرار عندنا، بأن ترتسمَ لديهم رؤية متكاملة ومتينة، لكيفية التعامل مع أعداءٍ لا يكلون ولا يملون من التربص بِنا وبدولنا ودورنا ومستقبلنا أشرّ الشرور.
ماذا في الرؤى؟
لا يختلف اثنان منا، بأنّ الخلاف في الرأي، والذي وقع بين أوباما ونتنياهو قبيل توقيع الاتفاق النووي، كان حول نقطتين أساسيتين، أولاها رضوخ الأول للمنطق الإيراني في فصل السلة النووية عن السلال الأخرى في المنطقة، وذلك بعكس رغبة الثاني في الإصرار على ربطها بعضها ببعض، وثانيهما تتعلق بكيفية تدمير العقيدة الثورية للشعب الإيراني، فكان الأول يرى بأنّ رفع العقوبات، سيجعل الجمهورية وشعبها وسياستها «أقلّ عدائية في المنطقة« عما هي عليه في حينه، وذلك بفضل توقع أوباما بأنّ الشعب الإيراني سيتذوّق «حلاوة« طعم العيش بدون عقوبات شديدةٍ مفروضة عليه.. أما الثاني، فكانت رؤيته معاكسة تماماً للأول، وذلك عندما نادى – وللوصول إلى الهدف نفسه -، بضرورة تبطيء الساعة الدبلوماسية مع إيران، وتفعيل وتمديد ساعة العقوبات عليها، وذلك أملاً بالوصول بها، وإلى ما أسماه في حينه »إلى ساعة اهتزاز استقرار النظام فيها«! وفي هاتين النقطتين أيضاً، كانت قد تغلبت رؤية أوباما، فكان ما كان، إلى أن وصل ترامب إلى سدة الرئاسة في البيت الأبيض.. فتوحدت الرؤى الأميركية والصهيونية مجدّداً حول الملف الإيراني برمّته.
ماذا في الطموح؟
يدرك الجميع، بأنّ طموح كلّ من أوباما ونتنياهو لم يكن واحداً، فكان الأول طامحاً، وفي نهاية مسيرته السياسية من ولايته الثانية، بأن يُحدث اختراقاً في جدار العلاقة مع طهران، يتوسّل من خلاله بتخليد اسمه في سجل «العظماء« من تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، أما الثاني، فلقد كان في حينه، مسكوناً، وكما أسلافه وكلّ كيانه بهاجس البحث اللاهث عن الأمن المفقود والمنشود دائماً، هذا إضافة إلى أنّ مسيرته السياسية لم تكن في خواتيمها بعد، وذلك مع إدراكه العميق، بأنّ ركيزة الأمن في كيانه لهي المفتاح الرئيس لبلوغ الطموح الجامح في إكمال مسيرته السياسية الفريدة في مدّتها في تاريخ رؤساء الحكومات في الكيان الصهيوني… وهذا الافتراق في الطموح أيضاً، كان – وبحدّ ذاته – عاملاً جوهرياً في الوصول إلى تلك النتائج السياسية التي تمخضت في حينه! ولكن، ومع ذهاب أوباما ومجيء ترامب، تلاقى الطموح متطابقاً بين هذا الأخير، والمُجدَّد له في الكيان الصهيوني، وقد عنيت به «بنيامين نتنياهو»!
ماذا في العجز؟
استكمالاً لما ذكرناه حول تطابق الرؤية والطموح لدى الثنائي ترامب – نتنياهو، فإنّ هذين الرجلين، قد وقعا – فعلاً لا قولاً – في مربعٍ مشتركٍ من العجز أيضاً، فهما – وبفعل الاستحقاق الانتخابي المرتقب لديهما – مضطران أيضاً لعدم الوقوع في فخ العجلة لخوض حربٍ مع إيران، وخصوصاً، مع إدراكهما، بعدم اليقين لديهما حول مداها الزمني؟ ولا حتى أين سيكون ميدانها الجغرافي؟ هذا فضلاً عن عدم يقينهما المطلق في إمكانية حسم هوية المتدخلين في خوضها، وذلك في الإقليم برمّته!
لا يقتصر التطابق بين هذين الرجلين في مربع العجز، في هذه الناحية فقط، إنما يتعدّى ذلك، إلى مسألةٍ جوهرية محفورةٍ في وعي كليهما، والتي تتمحور حول تلك الضبابية وعدم اليقين المطلقين بإمكانية «تغيير البيئة الإستراتيجية» وبشكلٍ جذري في منطقة الشرق الأوسط برمّتها، وذلك على اثر أية معركةٍ يخوضانها مع إيران ومحور المقاومة معها، وتحديداً في مثل هذه الأيام من زمن التشبيك المعلن والمنظور لأطراف محور المقاومة جميعاً، ووضع يدهم على الزناد، استعداداً لإطلاق النار على كافة الخواصر الرخوة لأميركا والكيان الصهيوني معاً، وذلك على امتداد جغرافيا المنطقة والإقليم.
أخلص إلى القول بأنّ «عقيدة« هذا الثنائي المأزوم، وفي النتائج التي حصدها ويحصدها اليوم، كانت – وبشكلٍ أساسي – بفعل تلاقٍ لرؤىً خشبيةٍ لديهما، وذلك في كيفية «إنهاك» إيران وحلفائها في المنطقة، هذا إضافة إلى أنّ وحدة المسار والمصير للطموح الجامح والأعمى في طلب «العظمة« لديهما كان مدماكاً، جعل من إيران ومحور المقاومة معها، بأن بنوا الكثير الكثير عليه، فكانوا الخلاّقين في تفعيل استراتيجيةٍ للمواجهة مع أميركا والكيان الصهيوني، وأتباعهما في المنطقة، أسُّها مبنيّ على ما أسميته يوماً بـ «عدم التخيير في البدائل المتاحة« سواء أكان ذلك في الملف النووي، أو حتى التقليدي، والتي هي وحدها، دون غيرها – وفي ظلّ موازين القوى العالمية الحالية – كانت الكفيلة بجلب العدو صاغراً إلى حيث ما يُريدُ أصحابها.. وكانت وهي وحدها دون غيرها أيضاً، هي من أصابت بالأمس واليوم، كلاً من ثنائي أوباما – نتنياهو، ومن ثم ثنائي ترامب – نتنياهو، بعجزٍ فاضحٍ وغشاوةٍ كثيفةٍ عن إمكانية استشراف الخواتيم والنتائج المنتظرة لكافة سياساتهما واستراتيجياتهما الكيدية ضدّ رأس وأطراف محور الممانعة معاً..
بكلماتٍ معدودة، أكادُ أجزمُ بأنّ نتنياهو الحالم بمحو إيران عن الخارطة السياسية في المنطقة، وبفعل رؤاه وطموحاته، إضافةً إلى عجزه.. كان هو الذي فرمل ترامب المفتون والمسكون بهاجس العظمة والقوة، عن الاندفاعة بالمضيّ في قراره بالردّ على إسقاط طائرة التجسّس بالأمس في المجال الجوي للجمهورية الإسلامية.. الأمر الذي سيؤسّس، وبلا أدنى شك، لكارثةٍ ومقتلٍ لإستراتيجية تعامل إدارة ترامب مع إيران.. فالأمور – وبتقديري – ستندفع حتماً نحو خروج مؤكد لإيران من بين زوايا مثلث الإستنزاف والعقوبات والتعرية، وذلك سيكون حتماً أيضاً – وكما كنا قد كتبنا حولها سابقاً-، إمَّا عن طريق عقلنة الترامبية أو إزاحتها، وبشكلٍ كلي من المشهد السياسي الأميركي، وذلك إنْ هي اندفعت نحو جنونٍ لا يُحمد عقباه.
أيها السادة، لنفكر بذلك، وبروية.