ملاحظات على هامش إسقاط طائرة الاستطلاع الأميركية…
نصار إبراهيم
لنهدأ قليلاً… لنقرأ ونفكر طويلاً…
– إيران تسقط طائرة الاستطلاع الأميركية، العملاقة والمتطوّرة من طراز MQ 4 C Triton. في مياهها الإقليمية بالقرب من منطقة جبل «مبارك» في محافظة «هرمزكان» الإيرانية فجر 21 حزيران 2019.
– ترامب يأمر بردّ عسكري وتبدأ القطعات العسكرية الأميركية في المنطقة بالاستعداد… ثم بعد دقائق يأمر بوقف الضربة أو العدوان.
– إيران «ستتعامل مع كلّ استهداف لأيّ نقطة إيرانية بصفته إعلان حرب…» سواء كانت الضربة محدودة أو شكلية أو أصغر أو أكبر… وسواء أعلمت بها مسبقاً أم لا… هذا ما أبلغته إيران لكلّ الذين يحملون الرسائل بينها وبين واشنطن…
ملاحظات:
– بالتأكيد أنّ أميركا عسكرياً واقتصادياً هي أقوى دولة في العالم، وبالتأكيد أنها تملك قوة تدميرية هائلة بما في ذلك الأسلحة غير التقليدية… هذا يعني عملياً أنّ بمقدورها أن تهاجم إيران وتوقع بها دماراً هائلاً… ولكن….
– الدول الكبرى حين تخطط للحرب فإنها لا تقوم بذلك بحسابات ثارات القبائل، فهي بقدر ما تستثمر سمعتها وهيبتها بالحدّ الأقصى لتحقيق أهداف كبرى أو جزئية.. فإنها حين تقرّر الحرب مع دولة قوية مثل إيران فإنها تخضع قرارها لحسابات دقيقة عسكرية وسياسية واقتصادية ومعنوية.. وهي تملك من الوعي ما يجعلها تدير معادلات الحرب ببرود أعصاب وليس بمنطق ردّ الفعل… هذا ما لا يفهمه عربان الخليج الذين يدقون طبول الحرب دون أن يقفوا لحظة واحدة ليسألوا أنفسهم أسئلة استراتيجية تجيب على مختلف التوقعات والاحتمالات التي ستلقي بأثقالها فوق رؤوسهم وفي غرف نومهم.
– أميركا ليست دولة ساذجة… وهي لا تتصرف كأداة عند عربان الخليج، كما يتمنون ويتوهّمون، ولا حتى عند «إسرائيل» ربيبتها وقرة عينها.
أميركا لها حساباتها واستراتيجيات عملها وهي قبل أن تقدم على أيّ عمل تضع على الطاولة كلّ الاحتمالات والتوقعات: قوة إيران وإمكاناتها، الخسائر البشرية والاقتصادية والمعنوية المتوقعة، القدرة على السيطرة ومنع تحوّل أيّ عمل عسكري إلى مستنقع وعملية استنزاف طويلة، مصير حلفائها… وغير ذلك.
– كلّ هذا يفسّر ذلك الاستنفار الأمني والسياسي والعسكري في دوائر صنع القرار الأميركي قبل وبعد إسقاط طائرة الاستطلاع… مما يعطي لمحة عن مناخ وضوابط عقل الدول الكبرى قبل الإقدام على أيّ عمل عسكري.. لنلاحظ: صدور قرار من مجلس النواب الأميركي يلغي تفويض استخدام القوة العسكرية الذي منح للرئيس الأميركي بعد هجمات أيلول/ سبتمبر2001، وقبل ذلك كان الاجتماع الصباحي العاجل لإدارة ترامب لتدارس إحاطة عسكرية سرية عن مفاعيل «كروز» اليمني على كهرباء ومحطة تحلية المياه في جيزان السعودية، ليتواصل الاجتماع الصباحي بالاجتماع المسائي على وقع غارات لسرب من الطيران المسيّر اليماني على مطار ومرابض الطائرات المعادية في مطار جيزان السعودي ومطار أبها.
وما بين الصباحي والمسائي اجتماعات نهارية متواصلة لتدارس نتائج ومخاطر وتداعيات وقوع أميركا في فخ إسقاط طائرة الاستطلاع، فكان أول اجتماع للأمن القومي الأميركي ثم البنتاغون والأمن القومي ثم النواب والشيوخ والكونغرس بالأفراد والتثنية والجمع والطرح والقسمة بتباين واختلاف التصريحات للصقور والحمائم، وليتوّج الأمر بدعوة البيت الأبيض للكونغرس بالاجتماع للتشاور لذات الموضوع حتى الدقائق الأولى لصباح يوم الجمعة 21 حزيران/ يونيو… الكاتب اليمني جميل أنعم العبسي .
هنا من المفيد أن نقارن بين كلّ هذه الآليات والتدقيق الذي يحكم أداء أميركا وبين الطريقة التي ذهبت إليها السعودية وحلفها إلى حرب اليمن الغارقة فيها حتى أذنيها منذ خمس سنوات… بحيث لم يعد ينفعها حتى معاهدة «كوينسي» التي عقدتها مع الأميركيين في عام 1945 والتي تنص على توفير الحماية الأميركية للسعودية مقابل أهميتها الاقتصادية والدينية.
حيث سقطت السعودية ببلاهة في سياق الصمود اليمني الأسطوري وأمام إرادة القتال وتطوير قدرات الجيش اليمني واللجان الشعبية عسكرياً وخاصة على صعيد الصواريخ البالستية والمجنّحة والطائرات المسيّرة التي راحت تجتاح العمق السعودي وتدمّر المطارات وخطوط النفط ومحطات الكهرباء…
إيران بدورها لا تدير مواجهتها مع أميركا وحلفها بمنطق ردّ الفعل.. بل بتركيم عوامل قوّتها وصمودها الشاملة واستثمار كلّ ذلك بالحدّ الأقصى، يشمل ذلك: قدراتها البشرية والعلمية والعسكرية والاقتصادية والسياسية وفضائها الجيواستراتيجي ومحور المقاومة ودوره في سورية ولبنان وفلسطين واليمن والعراق… إلى جانب حلفائها الدوليين روسيا والصين… إنها تحسب جيداً.. وتنسج سجادة صمودها وردودها بأناة وحكمة وحزم.. وكلّ ذلك من منطلق أنّ إيران دولة قوية ومستقلة تماماً.
المهمّ… الآن وبعد يوم طويل من التوتر وشدّ الأعصاب حتى حدّها الأقصى جاء قرار إلغاء العملية العسكرية الأميركية وإنٍ كان تحت أسباب «إنسانية وبأن لا تناسب بين إسقاط طائرة استطلاع أميركية غير مأهولة مقابل ضربة قد تودي بحياة 150 إيراني! حسنا ليكن ذلك…
ولكن حدث في 3 تموز/ يوليو عام 1988 أن قامت مدمّرة أميركية بإسقاط طائرة مدنية إيرانية رحلة رقم 655 على متنها 290 راكباً مدنياً من بينهم 66 طفلاً و16 شخصاً هم طاقم الطائرة. وقد أسقطت الطائرة بالضبط في المنطقة التي أسقطت فيها طائرة الاستطلاع الأميركية أمس. فما الذي تغيّر ما بين عام 1988 واليوم؟ لماذا لم تأخذ إدارة رونالد ريغان آنذاك بعين الاعتبار الجانب الإنساني ومعادلة التناسب بين الفعل وردّ الفعل كما يفعل دونالد ترامب اليوم!؟ هل السبب يعود لتغيّر قوة أميركا وإمكاناتها أم لتغيّر قوة إيران الشاملة…!؟
على أية حال، إنّ اللعب على حافة الهاوية حين تقوم به وتديره قوى كبرى ووازنة لا يشبه هلوسة أنظمة تابعة وضعيفة، هشة وتافهة تديرها عائلات بمنطق الخدم والثارات…
الخلاصة… لقد نجحت إيران في توجيه ضربة كبرى لذروة التكنولوجيا والغطرسة الأميركية في سياق حالة الاشتباك الضارية الدائرة بين الطرفين منذ أربعين عاماً… إنه وبلا شك إنجاز استراتيجي لدولة تعظم عوامل قوتها الشاملة بدون توقف… ومع ذلك فإنّ ما جرى لا يعني أنّ المواجهة قد انتهت.. إنه بالتأكيد فصل حاسم.. لكنه ليس الأخير…
السؤال: هل هناك من بين العربان من سيستخلص الدروس في كيف تبنى عوامل القوة الشاملة اجتماعياً، سياسياً، اقتصادياً، علمياً وعسكرياً وكيف تدار الصراعات والمواجهات استراتيجياً وتكتيكياً لحماية استقلال الشعوب والدول وكرامتها ومصالحها القومية في مواجهة القوة الغاشمة!؟