من سلسلة لن ننسى
«جواز سفر أبديّ»
وضعت على مائدة الطعام أشهى ما صنعته يداها، جلست ترقب الأصناف على مضضٍ، تمدّ يدها لتلمّ اللقمة وتتناولها..
كم كانت المسافة الزمنيّة طويلة بين لقمتها وفمها؟
ترتجّ أصابعها من حول اللقمة وقد سال من فتاتاتها أغلبها!!
فكلّ ثانيةٍ كانت بمثابة شريطٍ طويلٍ من ساعات ذكريات مريرة تعثّرت فيها حياتها الباقية!! لطالما كانت تجمع بطبيخها اللذيذ جميع أفراد عائلتها الكبيرة صغاراً وكباراً، وكلّ فردٍ منهم يقول لها: الله ما أطيبه.. سلمت يداك، كلّ طعام المطاعم والمقاصف لا تُضاهي بل لا تُقارن بلذيذ ما صنعت وأبدعت يا ستّ الكلّ، أمّ العطاء السّاحر!!
مضغت لقمتها بين دمعٍ وريقٍ كادا يلتقيان بغصّةٍ عميقةٍ وتنهيدةٍ طويلةٍ حاولت أنْ ترطّبها بشربة ماء..
نظرت إلى كراسي السّفرة، والتي وضعت إتيكيت بأسماء عائلتها فوق صورة كلّ فردٍ منهم عليها، وأخذت تحدثّهم بصوتٍ تحشرج بالبكاء..
تُرى أين أنتم الآن؟!
تُرى أين؟!
استعادت أطباق الطّعام إلى الحافظة تتمتم:
يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً ، يا لي…
لأوّل مرّة راحت تهذي بقطع جواز سفر.. أمْ أنّها تحلم بلقاء أولادها هذه المرّة، وليس لأمرٍ آخر!!
تحلم بأبديّة السّفر لتلتقي روحها أرواحهم وتكاغي بصوتها الحنون طفولتهم البريئة.. طفولتهم البريئة التي ذبحتها يد السّلام الهمجيّ، اغتالتها أيدي من يدّعي السّلام الوهميّ المزيّف!!
لأوّل مرّة تشعر جدياً بقطع جواز سفر أبديّ، عندما حلمت برجوع أخوتها وزوجها من خطف أيدي دعاة السّلام عبْر أذنابهم العملاء..
مشت تتهادى بخطواتها البطيئة، فقدمها المصابة قد تثاقلت حركتها.
سارعت نفحات ذكرياتها لصكّ جواز سفرها، فتختصر معاناتها كلّ معاناة الأمّهات والأخوات والبنات..
كلّ ما يثلج صدرها أنّ زوجها التي سمعت وتأكدت أنّه لم يمت جائعاً – فقد تناول ثلجاً في يوم شتويّ قارس، وقبل الغدر به، أثناء زحفه من المكان المحاصر لينجو بروحه بعدما استنفد طعامه وذخيرته!!
كلّ ما يثلج صدرها أنّ أولادها ذبحوا ولم تعبث بهم أصحاب يد الذّبح بفكرهم الضلاليّ قبل الذّبح!!
كلّ ما يثلج صدرها أنّ أخوتها خطفوا وربّما قتلوا، لأنّهم تمنعوا ورفضوا بشدّة خيانة بلدهم!!
كلّ ما يثلج صدرها أنّها ستفارق وتسلم الرّوح إلى جواز سفر سمائيّ أبديّ تلتقيهم بكل الفرح..
فتجتمع بهم لتصنع وتعد لهم ألذّ وأشهى طبيخ ملائكيّ من سلام الرّوح الإلهيّ!!
د. سحر أحمد علي الحارة