الدور الوظيفي في الاستثمار الفاشل

د. رائد المصري

بهدوء… فلا نتحدَّث هنا عن تأليب المواجع ونكْء الجراح بين الأفرقاء اللبنانيين، أكانوا السياسيين أو عامة الشعب من «الطَّبقات السُّفلى» التي لا يريد أهلها كسْر الشرنقة المُلتفَّة حول أعناقهم، حيث يساقون للذبح بين الحين والآخر أو لنحر الأضاحي البشرية كرْمى لأصحاب الشأن المتنفِّذين من الإقطاعات السياسية الانعزالية والذين صار همُّهم الوحيد إقامة المتاريس وتدشيم المحميات الطائفية والإكثار من الحديث عن الخصوصيات التي تنطبع بها مناطق جغرافية وسكانية معينة. ونحن ما زلنا نعيش تداعيات سقوط دولة البغدادي الداعشيّة الإلغائيّة والعنصريّة، ومعها أُرْسيت قواعد معادلة توازن الرُّعب مع الصهاينة في فلسطين كامتداد للفكر الإلغائي التصفويّ العنفيّ والتكفيريّ… فكيف نقدر على التمييز بين الإثنين؟

قلناها مراراً بأنَّ كلّ نُظم الدول السياسية وعقودها الاجتماعية تتطوَّر دائماً نحو الأفضل وبما يخدم الإنسان وأسلوب حياته، إلاَّ في الكيان اللبناني فنظامنا السياسي يتراجع الى الخلف أداءً وسلوكاً وحكماً سياسياً بدأ يتآكله الصَّدأ بسبب انعدامه وعقمه عن تقديم الحلول الجريئة على الصعيد الوطني والقومي في طريقة إدارة الشأن العام وإيصالها نحو الدولة المدنية العلمانية، وبسبب فقدان الدور الوظيفي لأغلبية القوى السياسية الطائفية والمذهبية الحاكمة بقبضتها على رقاب الناس والقادرة في كلّ مرة على الزجّ بهم في أتون حروب واقتتال ودورات من العنف الإلغائي بوجه الآخر الأخ في الوطن والمواطنية.. إنها آخر حلقات الإفلاس السياسي لهؤلاء بعدما عجزوا عن إقامة البديل وحبّهم الدموي في تكريس التوريث السياسي وكرههم التجديد فوقعنا في حبائل كيدهم وخططهم التدميرية القاتلة.

لا مكان في لبنان ولا يجب أن يكون من مكان له خصوصية وذاتية أمام العمل السياسي الحر والديمقراطي الذي يكرّسه ويرعاه القانون، بحيث صارت تنتقل عدوى المواجهة والاعتراض في الحفاظ على الخصوصيات من مزرعة مذهبية وطائفية الى مثيلتها لتتجدّد دورات العنف القاتلة وبعدها نذهب نحو التسويات التي تكرّس هيمنتهم وبطشهم وتسلّطهم على الناس.. إنّها مرحلة القرون الوسطى وأقلّ في ما يعيشه اللبنانيون من ظلم واستبداد وقضمٍ لحقوق الناس ومغالاة في العنف والقتل المجاني، فماذا بعد؟

المنطق الطائفي الميليشياوي في الممارسة من قبل الأزلام وأصحاب المزارع الطائفية ومن القيّمين على الدولة، والذي لم تتمّ معالجته بشكل صحيح خوفاً على الخصوصيات الذاتية التي تحدَّث عنها بعض أمراء الحرب والطوائف: امتدَّت الى طرابلس وجعلت بعض العوالق التي تقتات على الحروب ودم الناس تحذو حذو ميليشيا الجنجويد في دارفور السودان وتعترض على زيارات باسيل وتعتبرها منطقة مغلقة ولها خصوصيتها.. فلا نقدر ولن نستطيع بعد، وليس من باب الدفاع عن أحد، فعندما انتهت الحرب المذهبية الطائفية في لبنان نقِلَ زعماء الميليشيات من الخنادق والمتاريس الى جنّات السّلطة ونعيمها ونقلوا معهم مفهوم السّطو والسّلب والغنيمة، حيث نهشوا من لحمها حتى أفلست وضَعُفت وخارت قواها…

يمنّون علينا بالعيش المشترك ولنا أنْ نخضع على أبوابهم صاغرين.. يمنّون علينا بالسّلم الأهلي ونحن نعيش حرباً أهلية بامتياز يمارسها بعض أصحاب السّلطة من أمراء الحرب حين يطيب لهم الكيف.. يمنّون علينا لبنان الاعتراف بالآخر ويعمِّقون حفرات الخنادق المذهبية والطائفية والمناطقية…

يمنّون علينا بلبنان التعدّدية ونحن نعيش الفردانية والشخصانية وثقافة العنف وإلغاء الآخر عن وجه البسيطة.. يتحدَّثون عن الخصوصية المناطقية ولم نفْهَمها بعد أين.. حين كانوا يقتسمون غنائم الدولة سوية أفراداً وجماعات…؟ لم نَعُد نقدر على تحمُّلهم وتحمّل زمرِهم ومحاسيبهم… لم تَعُدْ لنا القدرة على تحمّل حفلات التكاذب ونحن نعيش حرباً أهلية حقيقية ويقولون حذار من الانجرار الى حرب.. لم تَعُدْ لنا المقدرة على الفصل بين المتاريس الميليشياوية زمن الحرب ومتاريس الطوائف والمذاهب التي تقتل في كلّ يوم وتُشرّع الذبح والاحتماء خلف جدران الزعيم الطائفي والديني…

لم نَعُدْ نستطيع حتى لو هدَّدتمونا بعودة شبح الحرب الأهلية إلاّ تمنّي عودتها، واذا ما خيّرتمونا بين هذا المنطق الطائفي لميليشيا الجنجويد وغيرهم من أزلام ومزارع السلطة المتسلطة من المذهبيين وبين وضعنا تحت تهديد انفراط العقد السياسي والاجتماعي والحرب الأهلية: فإننا نفضّل الحرب على بشاعتها على أن لا يتحكّم بنا زعران الطوائف والميليشيا ممّن كانوا وأينما كانوا ووقت ما يشاؤون…

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى