إضاءة

د. باسل الزين

مرّ الفيلسوف الفرنسي رولان بارت Roland Barthes بأربعة تحوّلات جذريّة على امتداد حياته الفكريّة، ومع ذلك لم تقم الدنيا ولم تقعد، بل راح الدارسون والنقاد يقفون على حقيقة تحوّلاته وأعماق فهمه ناهيك عن تبيّن أسباب عدم ركونه إلى فكرة بعينها فنعتوه بأنّه رجل الأدوار ووسموا فكره بطابع التجديد وتحسّس الأزمات ولا سيما البلاغيّة منها. إنّ الهم الذي قضّ مضجع بارت هو الهم الآتي: كيف يُمكن تجاوز القيود التي تفرضها اللغة علينا؟ وأنّى لنا أن نراوغها؟ وهل بمكنتنا أن نكتب نصًا نقيًا طلقًا متحررًا، نصًا محضًا لم تجرِ كتابته حتى اليوم بعد؟

ولما كانت المعاناة الأدبية والفكرية إنسانية وشمولية، فقد استلهمنا من بارت ومن الجرجاني والغزالي وغيرهما من قبله، استلهمنا تحسسهم عمق المشكلة، فكان الأدب الوجيز.

وعليه، يهمّني في هذا الصدد أن أُسلّط الضوء على أمرين اثنين: أوّلهما: ضرورة تحرّر النقد من الصبيانية الشخصانية والمزاجية التصنيفية والمعايير الفاقدة للمعايير والأحكام الجمالية التي تتأطر وفاقًا لرغائبية الناقد بعيدًا عن كل صور تعقب الإشكالية البلاغية الناشبة في عمق أعماق النصوص الأدبية. وفي هذا السياق، يُسجّل للناقد الكبير عبد الله الغذامي إعلانه موت النقد الأدبي بالمفهوم الذي أتينا على ذكره وتحوّله إلى النقد الثقافي، حيث درس الأنساق الخطابية التي تحكم النصوص الأدبية، فإذا بدروسه تنضح بتحليل معمّق وتدبير متقن، كيف لا وهو الذي كشف في داخل النمط الحداثي عن أنساق كلاسيكية صرفة؟

ثانيهما: موقع البلاغة في عصرنا اليوم. حقيقة الأمر، لم يعُد بالإمكان التصفيق لشاعر استلهم استعارة من خياله البعيد أو خطّ تشبيهًا لوى من خلاله عنق المشبه وخلخل بموجبه دلالة المشبه به، كما لم يعُد من الجائز القبول بجملة كنايات تحيل إلى فهم مضمر يُمكن القبض عليه بسهولة ويسر تامين. بهذا المعنى، أودّ تأكيد جملة أمور أبرزها:

1 طُمأنينة اللغة: إذا كانت اللغة كائنًا حيًا ينمو ويتطوّر، إلا أنّها تبقى كائنًا يتطور في مركزه ويراوح مكانه. إذ كيف يتيسر لأبجدية محددة أن تقبض على روح الكون وأشلاء الذات ونوازع الكشف؟ اللغة نسق لا يلبث أن يُرخي بظلاله على عملية القول فيحكمها بجملة قواعد نحويّة وضوابط بلاغيّة وأحكام فقهيّة لا سبيل إلى الفكاك منها أو التفلت من قبضتها. اللغة طمأنينة زائفة تستدرج من يمتلك بعض آليتها إلى الركون إلى أنساقها والاحتكام إلى بنيانها فيغدو مسودًا بالمطلق بدلًا من أن يكون سيّدًا ومسودًا في الوقت عينه.

2 طمأنينة الشاعر: الكاتب بعامة، والشاعر بخاصة، يفتضّ أبعادًا خاصة به، يستنزف طاقاته في تكوير أسلوب يحمل بصمته ويحاول القفز فوق أسوار التراث الأدبي الشاق والعنيد. ونحن على دراية تامة بأنّ التخلص من قيود التاريخ الأدبي ضرب من المحال، ومع ذلك، فإنّ النقلة التي يجريها الشاعر فوق رقعة الكتابة سرعان ما تستكين، لذا تراه يجتر نفسه ويعيد إنتاج مقولاته عينها. بيد أن الخطورة لا تكمن عند هذا الحد، بل تكمن تحديدًا في تكريس أنواع أدبية تحكمها لغة واحدة وتجارب موحّدة وأنماط تعبيرية متطابقة. ربما اعترض معترض بالقول: الأدب الوجيز حالما يُكرّس نفسه نوعًا أدبيًا مستقلًا سيُعيد إنتاج مقولاته عينها. حقيقة الأمر أنّ هذا الرأي مرفوض جملة وتفصيلًا، وهذا ما ستكشف عنه النقطة الثالثة.

3 خلخلة البنى البلاغية: يكمن رهان الأدب الوجيز في كسر علاقات الإسناد وطيّ صفحة الاستعارة الخائبة والتشبيه المضني والكناية السطحية. وفي هذا السياق، برزت مدارس سعت مسعانا ونحت منحانا وأعني تحديدًا المدارس الرمزية والسوريالية والتفكيكيّة وغيرها. بيد أنّ مناط التجديد في الأدب الوجيز يتمثّل في إبقائه نسقي الشكل والمضمون مفتوحين. بتعبير أوضح، يسعى شاعر الومضة إلى تكريس فكرة التوليد الدائم للدوال والإحالة إلى مدلولات غير مرئية وغير منتظرة. الأدب الوجيز يفجّر المخبوءات داخل النسق البلاغي، ويشتت النسق الأحادي الذي يحكم النص، وهو بتشتيته هذا إنما يفتح الباب أمام تعدد الدلائل داخل النص الواحد، هذا التعدد الذي يحتفظ بتناغمه وتناسقه وانضباطه وذلك بالقدر نفسه الذي يكسر فيه المنطق التفهميّ. الأدب الوجيز يدعو النص إلى هدم نفسه ليتجاوز نفسه، لذا تراه يجترح أنماط علاقات ملتبسة، علاقات على الصعيد التشبيهي لا تكتفي بترسيخ المسافة بين ركني التشبيه بل تسعى إلى نسج علاقات غير مرئية ذات طابع تفكّري حدسي استبطاني فلسفي صوفي تهويمي. نعم، هذا المزج اللامرئيّ بين عناصر تبدو متنافرة للوهلة الأولى هو إعادة صوغ للمنظور الكتابي في التطلع إلى الكون ورؤيته. قل كذلك عن حقلي الاستعارة والكناية.

وعليه، يندرج النقد العلمي اليوم في سياق دراسة الأشكال التعبيرية الجديدة التي تُشكّل ثورة على استكانة المعايير وسطحيّة التدابير. المطلوب اليوم، قراءة النص بأبعاده اللامتناهية. ولنكن دقيقين: إنّ الدعوة إلى استكناه المخبوء اللانهائي في النص الأدبي يتطلب الإيجاز والتكثيف. الكون برمّته ولاتناهيه انبثق من انفجار كبير لكتلة صغيرة. ورد في التراث العربي البيت الآتي: «وتحسب أنك جرم وفيك انطوى العالم الأكبر». النص صنو الشاعر هنا، كثافته هي كثافة الكون التي بانفجارها وانفلاشها فتحت الباب أمام كل أشكال القراءات والتأويل والكشف والتمحيص: ألم ينطوِ الكون على حتمية ولاحتمية في آن معًا؟ ألم تجرِ جملة أحداث طبيعية بخلاف ما استرعى انتباه العلماء عبر التجربة؟ لقد آن الأوان ليتفجر النص الأدبي ويخرج من كينونته المظلمة، فتعالوا نقض مضجع اللغة، ونأتي على سكونية التصنيفات البلاغية البائدة.

عضو ملتقى الأدب الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى