أنطون سعاده والأمة السورية: مَن أعطى مَن؟
الشيخ محمد أديب ياسرجي ـ حلب
1 ـ ما من شك في أنّ «الأمة السورية» ليست من اختراع أنطون سعاده لا من حيث المفهوم، ولا من حيث المصداق.
فالأمة السورية – من حيث المصداق – حقيقةٌ تستمدّ أصولها من أمدٍ يعود إلى ما قبل الزراعة واتخاذ القرى والكتابة والخيال الشعري والفلسفة، التي كانت كلّها بعضَ منائح السوريين للإنسانية.
وهذه حقيقة كان إدراكُها الدافعَ الذي وجّه الزعيمَ سعاده باتجاه العمل لصياغة نظرية متكاملة للتعبير عنها، ابتداء من عام 1921، حين بدأ يفكر جهراً، وينشر ثمرات فكره على صفحات «الجريدة» في المهجر.
2 ـ وأما من حيث التسمية، فإننا نجد هذا التعبير «الأمة السورية» في واحدة من أهمّ وثائق فترة ما بعد الاحتلال العثماني، وهي وثيقة «إعلان استقلال سورية»، التي صاغها برلمان سورية الكبرى، الذي يُسمّى «المؤتمر السوري العامّ»، والتي أُعلنت من دمشق يوم الثامن من آذار 1920، حيث ورد تعبير «الأمة السورية» أربع مرات، وهو أكبر من العدد الذي ورد فيه تعبير «الأمة العربية» في الوثيقة – الإعلان المذكورة.
ونحن لا نعتقد أنّ «المؤتمر السوري العامّ» هو من أبدع هذا المفهوم، بدليل تكراره لفظياً، وكذلك بدلالة التعويل على معناه في أكثر من موطن، ومنها الحديث عدة مرات عن الوطن السوري والبلاد السورية والوحدة السورية التامة، وكذلك عن الأقاليم السورية، حيث تعتبر فلسطين «سورية الجنوبية» بحسب تعبير الإعلان.
ونعتقد هنا أنه ينبغي البحث في أدبيات تلك الفترة من بدايات القرن العشرين عن نصوص أخرى قد استخدمت مفهوم «الأمة السورية»، وأظن أننا لا بدّ واجدون شيئاً من ذلك.
3 ـ إذا لم يكن لسعاده دور في تخليق المصداق ولا في نحت المفهوم، فأين يتجلّى دور سعاده إذن في «الأمة السورية»؟
أرجو ألا أكون مُجدّفاً إذا قلتُ:
إنّ أنطون سعاده هو «الفادي» الذي صُلب من أجل بعث الروح في خواء أبناء هذه الأمة السورية، ممن تكالبت عليهم سنون القهر والجهل، فأضحوا تائهين عن ذاتيتهم، حتى فقدوا إيمانهم بأنفسهم، فراحوا يلتمسون وجودهم في استعارة عصبيات طائفية «دون أمّية»، لعلهم يجدون فيها مخرجاً مما هم فيه!
أو إذا قلتُ: إنّ الشهيد الزعيم هو «حسينٌ» ما، تعاون أربابُ السلطان لكي «يكربلوه»، أملاً في أن يقضوا على الفكرة التي يمثلها وتتجلى حيّة في شخصيته، وهم لا يدرون أنهم بذلك يعطون تلك الفكرة من روح الشهيد ما يجعلها أعظم تألقاً وأبقى حياةً وأثراً.
فليست الفكرة التي ترويها الشهادة كتلك الفكرة التي تنبتُ في الدّعة وحبّ السكون.
4 ـ إذن، هل كانت شهادة سعاده هي إضافتَه التي أعطاها للأمة السورية؟
بالتأكيد: لم تكن عطاءه الوحيد ولا الأكبر… لأنّ شهادته، على جليل معناها وعظيم أثرها، ليست إلا الفصلَ الأخير من مسيرة الأمة السورية، كما «تجسّدت» في أقنومها الأخير، وليس الخاتم، وهو أنطون سعاده.
وكذلك تكون شهادة كلّ شهيدٍ حقٍّ، خلاصةً مدوية يعلنها التاريخ لمسيرة طويلة ملؤها العلم والعمل والحب والبصيرة والجسارة والفداء.
ومِن أعظم هؤلاء أبو الشهداء الحسين، الذي يُظلَم لا يزال، عند من لا يعلم أنّ عاشوراء بنت الحسين، وليس الحسين وليدَها، وأنها لم تكن إلا الجملة الأخيرة من كتاب الإنسان العدْلِ المقسط الراشد الرائد الذي كان اسمه الحسين بن علي.
فأين كان عطاء سعاده الذي خُتِم بالفصل المحتوم الذي ينسجم مع ما قبله، وهو فصل الشهادة؟
5 ـ لا مراء عندي في أنّ هذا العطاء يتجلى أولاً في الجهر والصدع باسم «الأمة السورية»، عنواناً تاماً بالغاً حدّ الفصال، أيّ حدّ الاستقلال بذاته، والغنى عن الإعواز إلى غيره.
وهذا من أسرار ارتباط المفهوم «الأمة السورية» بسعاده، حتى كأنهما واحد، لأنّ سعاده لم يخالطه بغيره، ولا أشرك معه اسماً يوازيه أو يدانيه، وإن كانت «الأمة السورية» عنده منفتحة على الأسماء والمفاهيم الأخرى، في حوار طبيعي يتساوق والتطور الإنساني.
6 ـ وهنا يتجلى عطاء سعاده مرة ثانية، إذ سعى جاهداً ليقيم نظرية متكاملة متوازنة، غير مستعارة، تعبّر عن المبادئ الأساسية المختزنة في المفهوم، وترسم معالم شخصية الإنسان الحامل لها، وتُجلّيها في ميادين الاجتماع والاقتصاد والسياسة وغيرها.
وبذلك أضحى سعاده صاحب أول «كتاب» للأمة السورية، وله بذلك الشرف.
وليس المقصود أيّ كتابة أو مؤلَّف من مؤلفات الزعيم الشهيد، فكلّ ذلك بيانٌ لكتابه، ولكني أعني بالكتاب المنهاجَ الذي مهّدَ سبيله، والبناءَ الفكري الذي أراد أن يقيمه، واجتهد غاية الجهاد من أجله في كلّ ما كتب وعمل وقال.
7 ـ ماذا أعطى سعاده أيضاً؟
لقد حصّل «سعاده» السعادة بمعانيها الفلسفية والروحية والنفسية، وحتى بمعناها الفطري البسيط الذي يشير إليه عامة البشر حصّل الزعيم ذلك كلّه من «الأمة السورية»، فبادلها عطاءها بحبّ، وأي حبّ، فكانت «ليلى» وكان هو قَيْسَها الأبهى.
ووثق بها، ثقةً هي الإيمان بعينه من غير تردّد ولا ارتياب.
ولبيان هذا الحبّ والثقة شواهد لا تنقضي من كلماته ومواقفه، وأكتفي منها ببعض كلماته الأخيرة، التي أقرّ فيها أنه ماضٍ، لكنه أكّد أيضاً أنّ حزبه باق وخالد.
8 ـ وهنا أنتقل إلى رسالتي التي أرجو لها أن تلقى أذناً صاغية من المؤمنين بالأمة السورية، وبسعاده.
وهي رسالة في فقرتين:
أولاهما – أننا يجب ألا نضيّق دلالة تلك النبوءة الأخيرة التي أطلقها الزعيم قبيل استشهاده.
فحزب سعاده الذي تنبّأ ببقائه ليس هو أيّ تشكيل ولا أيّ تنظيم ولا أيّ جماعة مُهيكلة، ولا حتى ذلك التنظيم الذي أرسى الزعيم نفسُه قواعدَه الأولى.
انّ حزب سعاده الباقي هو حزب الفكرة، وحزب الرسالة، وحزب القضية.
فلا تحجّروا واسعاً يا إخوة الأمة!
لأنّ التنظيم قد يدخل في حزب الأمة والفكرة، ولكنه لا يمكن بأيّ حال أن يحتكرها.
9 ـ الثانية – أنّ الزعيم لم يدّع يوماً احتكار الفكرة لنفسه، ولا حجر على أحد أن يراجع نظريته، ولا أن يمحّصها، أو أن يطوّرها إنْ استطاع.
ولا يجوز فهم الثقة العظيمة التي تفوح من كلام سعاده على أنها ادّعاء للكمال أو العصمة.
وبعبارة أخرى: إنّ الحديث في الأمة السورية لا يجوز أن يتوقف عند حدود ما وضعه الزعيم، فذلك تهوين من شأن الأمة نفسها.
وهنا أعيد ما ذكرته سابقاً، وهو أنّ الشهيد الزعيم أنطون سعاده هو أقنوم الأمة السورية الأخير، حتى الآن، لكنه لا يمكن أن يكون الخاتم الذي لا أحد بعده.
فالأمة السورية ولّادة معطاء، وعلى كلّ من آمن بها أن يحاور سعاده، وأن يطالبه، وأن يبارزه إنْ استطاع، فذلك قمينٌ بمتابعة السبيل التي خطها الزعيم الشهيد، بثقة وفعالية.
طوبى لسعاده الذي أعطى أمته خير ما يعطي البارّ الحكيم.
وطوبى للأمة السورية التي أعطت ولا زالت، وكان من أجمل عطاءاتها أنطون سعاده.