حين يذهب الكاتب بالمكان والشخصية نحو المقدّس… صخرة طانيوس أنموذجاً!

طلال مرتضى

لربّما ما من جديد أقدّمه عن سياقات تلك المرويّة العالمية، لا على صعيد النقد ولا على صعيد الحقبة الزمنية التي تطرّقت لها وقتذاك مع تفاصيل لخيوط تركتها الكاتبة متفلتة عن سابق قصد، تلك الحقبة المحتدمة بصراعاتها الداخلية والخارجية، الداخلية التي ومن دون مواربة هي الخيط الذي انسلّ من عباءة صراع الكبار خارج دائرة المكان، أي الدول الاستعمارية حيث التي أثثت لظهور الكنتونات الإقطاعية ومفرز السطوة العثمانية في ذلك الوقت التي ولد من تحت إبطها البشوات والأغوات والإمارات وغيرها من المسمّيات التي تصبّ في منهل واحد وهو السيطرة على مقدرات الفقراء وجعلهم تابعين، هو الثوب ذاته التي توشّحت به الدول الاستعمارية وقتها كفرنسا وبريطانيا هذا قبل أن تتفتح عيون الأميركان على المنطقة..

لعلّ، هذا ليس بجديد علينا من باب أننا نسمع هذا الكلام كل يوم في نشرات أخبارنا، لكن ما يهمني كقارئ هو تبيان تداعيات تلك المرويّة التي لاقت صداً منقطع النظير، من هنا أذهب نحو التحليل بالقول ومنذ دخول المدرس البريطاني على خطّ الرواية يقبض القارئ وبلا شك بأن تابوت الدولة العثمانية قد دخل بيت النجار. وما دخول الانكليزي هذا الذي افتتح مدرسة القرية لتعليم أولاد الأغوات والنوابغ من أبناء الفلاحين ما هو إلا المسمار الذي تم دقّه بنعش الأتراك وبرضاهم من باب أن المدرسة ستعلمهم الثورة على الظلم وهذا ما يجعلهم ينتفضون للحرية التي ستأتي بمساعدة المستعمر الجديد دول التحالف ، وذلك بعدما تم النفخ من قبلهم في بالون محمد علي باشا والي مصر الذي ذهبوا به من هيكل البالون نحو المنطاد والذي انفجر في نهاية المطاف التاريخي أمام سطوة الاحتلال الجديد.

الكاتب هو الآخر ذهب نحو البعيد في إشاراته وتلغيزاته التي مرّرها دون تكلّف، بأن الذي يلقون الدعم من تلك الدول ما هم إلا أكباش قابلة للتسمين ومطاف نهايتها قاب قوسين أو أشهى عند اكتمال مهمتها التي سمّنوه من أجلها كما حصل مع أمير الجبل الذي والى محمد علي على حساب ولي نعمته الأول السلطان العثماني..

مما لا شك فيه أن الكاتب معلوف استطاع ببراعة قد لا يبحث عنها القارئ أو يتلمسها في القراءة لعامل الوقت. فالحقبة في تلك المرحلة التي عاصرتها الرواية تحمل في طيّاتها الكثير والكثير من التفاصيل الدقيقة والمفصلية في التاريخ العربي والعالمي معاً. فعامل الزمن لعب عليه الكاتب وأقصاه من خلال ضخ الأحداث بطريقة شائقة وقفت سداً بين القارئ وبينه وحجبت في رأسه تفاصيل الأسئلة المباحة أمام متعة الوصول إلى النهاية لتبيان ما حدث في الخواتيم..

ثمة أكشنة جليّة ولا تواري القارئ بدأت باعتقال الشيخ من قبل أمير الجبل وزبانيته وكفّ يده من الحضور في السياق وهو ما يوحي وكما قدّم الكاتب الأمير الذي لا يمكن أن يترك أياً من خصومه على قيد الحياة كما فعل مع والد بطل حكايته طانيوس الذي استطاع جرّه في كمين مكين من قبرص إلى لبنان، وهو ما يفاجئ القارئ بعد أن طرد الأمير وكفّت يده عن الأمارة وقت ذاك وهو ما تطلب وجود رجل فاعل يمشي بالمرويّة إلى خواتيمها ليعود بنا الكاتب إلى الشيخ الذي كان مسجوناً في أحد سجون الأمير.

في الحكاية مرّت شخصيات جداً مؤثرة ورافعة للعمل الروائي بعينه لم يتم استثمارها بشكل جيد وكان من الممكن البناء عليها لفاعليات أخرى تعطي الرواية رافعة تالية غير التي وصلت إليها مثل شخصية «حكمت البغال» أو البائع الجوّال..

وكذلك الشخصيّة التالية في الرواية والتي كانت فاعلة، رجل الأمير أو وكيله الذي يقوم بكل أعمال الأمير القذرة، بعد قراءة بيان دول التحالف من قبل طانيوس والذي طلب من الأمير التنحّي عن مكانته، ذكر الكاتب بأنه استطاع أن يجلي معه وقت خروجه عدد كبير من الأشخاص من معاونيه وأسرته ولم يتم التطرق إلى شخصية الوكيل وهو ما يذهب بالقارئ نحو الأسئلة التالية، هل استولى الوكيل بمساعدة دول التحالف فرنسا وبريطانيا على كرسي الأمير أم تمّ إغفاله من باب أن الكاتب لم يصرّح لمن أوكلت مهمة إدارة البلاد أو مصير الوكيل.

مصير طانيوس الذي انتهى غامضاً وكنهاية عبثية للمرويّة زاد من تفتح الأسئلة في ذهنية القارئ ليحول الرواية من رواية توثيقية لأحداث متصلة منفصلة عابرة إلى مرويّة أسئلة مفتوحة نحو فلوات بعيدة قد نقبض على بعض قطوفها يانعة الآن بعد أن تمكّن أصحاب النيات من تحقيق مآربهم..

اشتغل الكاتب أيضاً على تشكيل شخصية طانيوس البطل بعناية أكثر من الفائقة وهو ما جعل امتداد تلك الشخصية حياً بين طيات الكتب، وهذه هي حنكة الكاتب الذي يجعل من بطله المفترض كان أم واقعاً حالة مقدّسة في ذهن القارئ بمعزل أنها كانت على سطح الورق رافعة للخير أو الشرّ سيان..

هذا وقد جعل الكاتب من المكان علامة فارغة في روايته، فالبلدة التي اكتنفت صخرة طانيوس أشي بأنها عشعشت في رأس القارئ كمعلم مقدس وتاريخي لا يمكن محوه وهو الطريق الذي سلكه مواطنه النبي جبران الكبير.

أسئلة بقيت مسفوحة على هامش النصّ قد يستجلي القارئ وبالقراءة ذاتها ليجعل منها منارات أخرى تفتح أفق النصّ المكتوب والذي قد يغيب عن ذاكرة ما ويتفتح في ذاكرة أخرى.

كاتب عربي/ فيينا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى