ندوة بعنوان «بديع حقّي كاتب الموقف والكلمة الشعريّة» في مكتبة الأسد الوطنية
لورا محمود
بدأ مشواره الأدبي في سنّ مبكرة، وأصدر ديوانه الشعري الوحيد بعنوان «سحر»، ثم انصرف لكتابة الرواية والقصة، لم يثنه العمل الدبلوماسي عن الكتابة بل استفاد من تنقلاته في بلدان عديدة بإغناء إبداعه الأدبي فكتب القصة القصيرة والرواية وترجم العديد من الروايات لكبار الكتّاب حول العالم كطاغور وارنست همينغواي، أخذت القضية الفلسطينية حيّزاً مهماً من إبداعاته، فكتب عن فلسطين القضية والإنسان والأرض، ترك وراءه إرثاً ثقافياً كبيراً وبصمة واضحة في الأدب السوري هو الكاتب الراحل بديع حقي الغائب الحاضر في الندوة الشهرية الخامسة التي أقيمت في مكتبة الأسد الوطنية برعاية وزارة الثقافة بعنوان «بديع حقي كاتب الموقف والكلمة الشعرية».
وقد أدار الندوة الدكتور إسماعيل مروة الذي تحدث عن «موسيقيّة الكلمة في روايات بديع حقي» فمثلاً في رواية «همسات العكازة المسكينة» اعتمد الكاتب بديع حقي على أحداث واقعية عايشها بنفسه ولم يضف إليها إلا ما تقتضي أمور الرواية من تنميق وتزويق، وهو بهذه الطريقة أضفى مزيجاً من التشويق والترقّب لقراءة الرواية بكثير من الفضول ويبدو الأديب منغمساً بآلام الطبقة المسحوقة ومعاناتها وشقائها وأحزانها من عمّال وفلّاحين وعميان وعاهرات تعاطف معهم ولم يحكم عليهم، واعتبر أن الظالم في روايته هو نتاج المجتمع فالتمس العذر له، وقد تناول في هذه الرواية الأخطاء الطبية الناتجة عن الجهل والتي قد تؤدي إلى عاهة مستديمة وأيضاً الجهل والفقر الذي يدفع الأهل للجوء لعديمي الاختصاص للتداوي والاستطباب إضافةً إلى الظلم الاجتماعي والأذى النفسي الذي يتعرّض له أصحاب الاحتياجات الخاصة وعدم مراعاة مشاعرهم والحاجة الماسة للمال التي تدفع الشخص للسرقة والشحاذة والاستغلال الجنسيّ الذي تتعرّض له الفتاة التي تخدم في بيوت الآخرين.
وأضاف مروة: لهذه الرواية رسالة أراد الكاتب نقلها للقارئ وهي عدم اللجوء إلى عديمي الاختصاص من ممارسي مهنة الطبّ وضرورة تعليم الفتاة وعدم إرسال الفتيات للخدمة في بيوت الآخرين وعدم الحكم على الآخرين من واقعهم ومحاولة ايجاد المسوغات المنطقية لأفعالهم والابتعاد عن المجتمع الفاسد، وأن جريمة الشرف لا تمحو العار ومن الأفضل إيجاد وسائل أخرى غير القتل.
ولفت مروة إلى أن بعض قصص وروايات الكاتب بديع حقي عكست الهمّ الفلسطيني فقد عكس بعضها الآخر واقعية الحياة وظروفها الصعبة فقد كان يجتث صوراً حيّة كما في رواية «أحلام على الرصيف المجروح» التي تنبعث منها دقّات الفرشاة على ظهر الصندوق صندوق ماسح الأحذية.
وبدوره تحدث غسان كلاس عن السيرة الذاتية التي أسماها الكاتب بديع حقي «الشجرة التي غرستها أمي». هذا الكتاب كما يقول بديع حقي هو أحبّ مؤلفاته على نفسه وأقربها إلى حنايا قلبه، لأنه موصول بذكرى أمه مستجلياً ملامحها مصوّراً طبعها نافضاً خيوطاً من سيرتها المواكبة لطفولته وصباه من دون أي تزويق أو زيادة في الوصف والتحليل فقد كان الكاتب حقي شاعراً وقاصاً وروائياً وكاتباً مجيداً وناقداً يتذوّق حروف كلماته في إطار ما أسماه مغامراته الإبداعية.
وأشار كلاس لـ»البناء» أإلى أن الكاتب بديع حقي يُسحرك بأسلوبه الماتع وكلماته المنتقاة وجمله التي تحاكي الشعر عذوبة وأناقة، فهو يتحدث في رواياته عن العنادل وطيور اليمام والكباد والرمان والتوت الشامي والفلّ والياسمين ويصف ببراعة مشهودة حارات دمشق وأزقتها ودُورها ويروي ما اختزنته ذاكرته من قصص وحكايات.
وتناولت الدكتورة أماني محمد ناصر محوراً مختلفاً وهو قراءة في قصص بديع حقي ومضمونها، حيث قالت: الكاتب بديع حقي تأثّر في بداية حياته بدمشق وأجوائها وجمال حاراتها وأشجارها وياسمينها وبيوتها وتجلّى تأثره ذاك في قصصه كقصة «اللص والعكازة» التي بدأت بالقرب من الجامع الأموي وأمام مقهى النوفرة المشهور.
ونوّهت ناصر بأن الكاتب حقي اعتمد على الحوار بين شخوص قصصه لإيصال فكرة معينة للقارئ وتنوّعت حواراته بين السخرية والكوميديا والألم التي تجلّت في قصته «التراب الحزين» وهي أيضاً عنوان لمجموعة قصصية له درست في مناهج المرحلة الثانوية في إحدى الفترات.
وأضافت ناصر: الأمكنة في قصص بديع حقي تنوّعت جداً، فهو يجول بنا في دمشق ثم في فلسطين وفي القدس في قصته «الزيتونة» وأيضاً في بلودان المكان الذي كتب فيه معظم أعماله الإبداعية ونظّم بعض قصائده وقصصه في أوروبا وغينيا وباريس.
أما عن اللغة في قصص الكاتب بديع حقي فأشارت ناصرلـ»البناء» إلى أن اللغة هي أهم ميادين الإبداع القصصي وأصعبها وأن ما يضعف القصة طغيان لغة كاتبها على لغة شخصياتها، فحينها تتكرر عبارات معينة ومفردات محدّدة في أكثر من قصة واحدة للقاص نفسه فسيكون حاضراً في ذهن القارئ كأنه يفرض عليه وعلى شخصيات القصة سلطته وتأويلاته. فاللغة القصصية هي الأداة السحرية للتخيّل التي تعيد خلق الواقع وتجسّده على الورق. ولغة الأسلوب القصصي للكاتب حقي لغة مليئة بالأحاسيس والحبّ فلا نجد للتكرار مكاناً في لغته القصصية، وقد ساعدته لغته الشعرية في بعض الأمكنة من قصصه إضافةً إلى لغته الواقعية التي تدهشنا بقدر ملامستها واقع الفضاء القصصي وتعبيرها عنه بما ينفخ الحياة في الراوي وشخصياته.
وبدوره تحدّث أيمن الحسن عن محور مهم في أدب الدكتور حقي وهو «فلسطينيات الكاتب بديع حقي» الذي كان يرى أن من شرّد أهل فلسطين واجبرهم على ترك مدنهم وقراهم وأراضيهم هو الاحتلال نفسه الذي ما زال إلى اليوم يمارس التهويد والعنف نفسهما على الشعب الفلسطيني ويدمّر الأبنية ويحرق أشجار الزيتون في بيارات القدس وذلك لإفراغ الأرض من سكّانها الأصليين لأنهم شوكة في خاصرة «إسرائيل».
وتابع الحسن: صحيح أن التاريخ لا يتكرّر حرفياً مع الاحترام لمن يقول غير ذلك لكنني هنا أمعن النظر في مشاهد متقاربة بملامحها ودلالاتها على الرغم من تباعدها زمنياً ليظلّ هدفي في هذه القراءة استحضار الدروس واستلهام العبر. وها نحن مع الدكتور بديع حقي ننظر في المشهد الكارثي لنكبة عام 1948 و1968 وغيرها من الوقائع العربية المؤسفة التي كان ينظر إليها من بُعد وليس من عمق المأساة كما فعل الأديب حقي الذي ذهب إلى الأراضي المحتلّة ورأى ظلم الاحتلال وتشريد الشعب الفلسطيني الذي أصبح لاجئاً في أرضه.
يُذكر أن الدكتور بديع حقي ولد في دمشق عام 1922 نال إجازة الحقوق من جامعة دمشق عام 1944. حاصل على الدكتوراه في الحقوق الدولية عام 1950 في باريس انتسب للسلك الدبلوماسي فعمل سفيراً ووزيراً مفوضاً ابتداء من عام 1945. من رواد الشعر الحرّ متفرّد بأسلوبه المعروف به في مجمل نتاجه ومن مؤلفاته: «حين تتمزق الظلال»، «المعطف»، «اللوحة»، «حين يورق الشجر»، «قصائد مناضلة»، «جفون تسحق الصور». رحل الدكتور بديع حقي في عام 2000 في دمشق بعد معاناة مع المرض دامت سنوات.