سوق النحاسين في حلب
هو سوق من أسواق حلب القديمة، تحكي دكاكينه حكايات أبناء أتقنوا حرف آبائهم وأجدادهم، التي توارثوها جيلاً بعد جيل.
وعلى الرغم من الدمار الحاصل في السوق ورصيفه البازلتي المتعرّج فإنني ما زلت أرى وجوهاً لن تستسلم لليأس أبداً وأيادي تعشق العمل. وها هي اليوم تمارس عملها الحرفي بمهارة عاشق للمهنة متيم بمدينة حلب.
بعض الناس أصلحوا أو رمموا دكاكينهم وبعضهم هاجروا، فمنهم من لا يمتلك المال للإصلاح أو حتى الترميم.
وبالتعرّف على مَن عاد منهم إلى العمل دار الحديث التالي:
الحاج محمود حج مصطفى..
عاد ورمم دكانه ولكن لديه مطلب ورجاء هو وجاره عبد الرحمن نحاس الذي ورث تلك المهنة عن أجداده ونقلها بدوره إلى أولاده.
تحدثا بحرقة عن وضعهما في الماضي أي قبل الحرب: كان رزقنا وفيراً جداً ولكن في فترة الحرب عملنا بأعمال لا علاقة لها بصنعتنا ولكننا أصررنا على البقاء في حلب التي عشنا فيها وأكلنا من خيرها.
ها هما اليوم يعودان إلى العمل من جديد بكل محبة وشوق. سألت الحاج محمود بدوري عن معدن النحاس المحلي، فأجاب: إن النحاس الأحمر حلبي الأصل أما النحاس الأصفر فيستورد من دمشق ويأتي بشكل صفائح ثم يقصّ بأشكال عدة وحسب الطلب، مثل: /أكري/ وهي صوان كبيرة للمطاعم، وأدوات المطبخ / صحون وملاعق ومصافٍ مختلفة الأحجام / كما توجد أوان نحاسية كبيرة مصنوعة خصيصاً لتقطير الورد إضافة إلى مدق الثوم / الهون/ الموجود داخل كل بيت حلبي.
يعني هذا أن مدينتنا تمتاز بحرفية عالية في صناعة النحاس وإعادة تشكيله من جديد بعد عملية الصهر.
لكن ثمة مطالب وآمال لأصحاب المحال في سوق النحاسين منها:
ترحيل الأنقاض التي تعرقل حركة العبور ضمن السوق، والخشية من جدار قديم آيل للسقوط موقعه أمام جامع النحاسين المدمر حالياً، والمطلب الأهم هو الكهرباء إذ يقولون: إنها وصلت إلى سوق النحاسين التحتاني لكن عندهم أي الفوقاني لم تصل الكهرباء.
وبالنسبة إلى عداداتهم فقد تم فكها للتعديل وتبرئة الذمم منذ أكثر من شهر ولم يتم تركيبها إلى الآن ولذلك فإن السوق يغط في الظلام.
مطلبهم الرئيسي عودة الكهرباء إلى محالهم وإلى الشارع أيضاً لأنهم يحتاجونها ليلاً لمواصلة عملهم. وأن يكون هناك مسح كامل وشامل للمحال المتضررة من أجل السلامة العامة للناس.
فقد تقدّم بعض أصحاب المحال بطلب ترميم منذ حوالي سنة ونصف للتعويض عن أضرار الحرب وحتى الآن لم يأخذوا شيئاً!! وهم يعلمون جيداً أنهم سوف يعيدون محالهم إلى شكلها القديم تماماً.
ومن بين كبار معلمي تلك الصنعة المتوارثة أطل علينا شاب جامعي يدرس في كلية الحقوق ويعمل عندهم في الوقت نفسه.
سألته عن سبب وجوده هنا وعن حبه للمهنة وكيف كانت البداية فعرّفنا بنفسه قائلاً: اسمي أحمد بشر يازجي ، وقال: كانت هناك دورات تدريبية للحرف اليدوية وقد قامت بتشجيعنا لتعلم تلك المهنة من خلال التعرف على أصحاب تلك المهن على أن تستمر مدة تدريبنا لديهم حوالي ستة أشهر وقد قدمت تلك الهيئة ما يحتاجه أصحاب المحال من عدة للعمل وقامت بدفع راتب لكل طالب 24 ألف ليرة عن كل شهر وللمعلم 60 ألف مقابل أن يعلم كل فرد منا.
سألته عن تجربته الخاصة تلك فأجاب: إنها مهنة عريقة وقديمة وقد أحببتها وسوف أسعى جاهداً إلى إكمال دراستي إلى جانبها. وتابع مازحاً: صباحاً في القصر ومساء في هذا السوق الشجي الملامح والحضور.
ومن خلال أكشاك تلك البيوت العتيقة الآيلة للسقوط المطلة على الدكاكين التي كانت تعزف لحن الحياة استوقفني رجل ترجّل من كرسي خشبي شوّهت الحرب قدمه وهو ينظر متحسراً إلى منزله العتيق الذي غابت عنه الوجوه والضحكات بسبب الحرب.
سألته لماذا لم تعد للسكن فيه فأجاب: لا أستطيع لأن جدرانه المتشققة قد تسمح بنزول المطر، وأنا لا أستطيع ترميمه، إنني حزين جداً ولكن عزائي هو هذا المحل وتلك المساعدة التي تمدني بأدوات للعمل فيه من جديد.
تبسّم حاج مصطفى قائلاً: رح نرجع سوا نعمرها خاصة بعد إصدار مرسوم يجعل الرخصة مجانية لإعادة الإعمار، وها نحن اليوم بهمة أفضل من السابق وسوف نعيد ترميم محالنا وذواتنا لنبدأ من جديد بهمة عالية، إن شاء الله.
وختم عبد الرحمن نحاس بدوره: اتصلت بأصدقاء العمل أناشدهم كي يعودوا واصفاً لهم الوضع بالجيد على أمل أن يعودوا كي يعود السوق شيئاً فشيئاً إلى الحياة وقد تجاوب معظمهم معي وهم في طريق العودة إلى الوطن.
حلب… قامة من سنديان الوفاء وقلعة من تاريخ مجدنا العريق، تروي الحكايات للأجيال عن زمن عبرناه بكل تصميم وإرادة، ونحن ما نزال نرفع الأنقاض عن دروبنا وذواتنا لتشرق شمس الأمل من جديد، وليخضرّ الكون بسواعد أجيالنا المقبلة، ولنعبّد طرقاتنا بصدق نياتنا وطهر قلوبنا، فالقادم أجمل.
إنها حلب مدينة العمل والعشق والطرب، وهم أبناؤها الذين يعشقون كل شبر فيها، وينسجون الحياة بذواتهم وتفاصيل حكاياتهم المعتقة بعبق ياسمين الدار وبوح القهوة وهال الذكريات.
وفاء شربتجي