من يتحمّل المسؤولية؟
علي بدر الدين
الانحدار المخيف للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في لبنان ينذر بعواقب خطيرة ومدمّرة إذا لم يتمّ تدارك أخطاره قبل فوات الأوان وتفادي الوقوع في المحظور المجهول، وبخاصة انّ الشعب فقدَ أو على وشك الأمل بالإصلاح والتغيير وقيامة الوطن، لأنه فقدَ الثقة بالطبقة السياسية التي تحكم لبنان منذ عقود، والتهمت الأخضر واليابس وما زالت تبحث عن المزيد لأنها لم تشبع. وكلما طال حكمها فتحت شهيتها وزاد نهمها ولا قيمة عندها له وقد حوّلته الى فريسة سهلة للفقر والمرض والحاجة وحرمته من أدنى مقوّمات العيش الكريم، ولم تبدّل جلدها او أداءها في إدارة شؤون البلاد والعباد، مع أنها تعي تماماً خطورة الأوضاع وما يدور حولنا من توترات وصراعات وأحداث وأزمات ستضع لبنان في عين العاصفة وتقوّض أسس أحلام الشعب وطموحاته وتوقه الى بناء وطن العدالة والقانون والمؤسسات، وتدخله في متاهات الصراعات الإقليمية والدولية ومصالحها، وهو لا قدرة له على تحمّل تبعاتها وتداعياتها التي ستكون كارثية على مجمل الأوضاع فيه.
علينا ان نعترف بأنّ الطبقة السياسية الممسكة بالسلطة وقرارها نجحت بإيقاعه بفخ سياستها ومصالحها شاهرة بوجهه شعارها القديم الجديد »ممنوع الاقتراب« من مواقعها السلطوية والمسّ بامتيازاتها التي احتاجت الى عقود، وبأنها على جهوزية للدفاع عنها بكلّ الوسائل المتاحة، وانّ اللعب على أوتار الخلافات الموسمية بين قادتها ومكوناتها خط أحمر لن يحصد اللاعبون منه سوى الريح لأنها وحدها من يتقن فن اللعب وهي لم تخسر المعارك التي خاضتها في مواجهة مواطنيها وقد حوّلتهم الى دمى تحركهم متى وكيفما تشاء والذين لا خيار أمامهم سوى الصمت وعدم الحراك والإخلاص لأولياء النعمة.
هذه الطبقة التي لا تستحي، تتهم الشعب بأنه المسؤول عن الانهيار الاقتصادي والإفلاس المالي والعجز في الموازنة وتفاقم الديون والفساد المستشري والصفقات والتلوّث وانقطاع الكهرباء وأزمة النفايات.
نعم، الشعب هو المسؤول لأنه غائب وفي سبات عميق ومشلول الإرادة وعاجز ومرتهن وتابع ولا يجيد سوى التصفيق والدعاء للحاكم بأن يطيل عمره ليبقى حاكماً متربعاً على عرش والسلطة هو الحاكم بأمره من دون اعتراض.
نعم، الشعب هو المسؤول لأنه قانع بالفتات وراض بالقليل أو وظيفة متواضعة ليست له وقد أخذت من طريق الكفوء والناجح ولأنه ينتظر التسويات والتوازن الطائفي والمصالحات وتقاطع المصالح.
نعم، هو المسؤول لأنه لا يزال مصدّقاً الوعود التي تغدق عليه وتدغدغ مشاعره وتحرّك غرائزه وتحاكي أحلامه في كل مناسبة او استحقاق انتخابي من دون ان يتحقق منها أيّ وعد سوى مزيد من الوعود، ورغم تجاربه المرّة والمذلة فإنّ هذا الشعب المعتر أو معظمه لا يزال يحمل عصا الذين حرموه من أبسط حقوقه وحوّلوه الى سلعة تباع وتشرى في سوق عكاظ مصالحهم.
إنّ الواقعية السياسية والوطنية تقتضي ان يعي هذا الشعب مسؤوليته، وان يفيق من غيبوبته ويرجع الى رشده ويخلع عنه الثوب المستعار ويزيل الأقنعة. وكفى تبعية عمياء وارتهاناً لوعد لن يتحقق، ولا بدّ من إدراكه بأن الطبقة السياسية التي حكمت لبنان منذ تكوّن النظام السياسي الطائفي في البلد متفاهمة في السرّ والعلن للحفاظ على مصالحها في الدولة والإدارة والاقتصاد وعلى توزيع الحصص بـ «العدل» بين مكوناتها، ولا تغرنكم الصراعات والخلافات التي لا تعدو كونها مسرحيات متقنة ومتفق عليها. وتوحي لبيئاتها الحاضنة انها من أجلهم وصوناً لحق الطائفة او المذهب تخوض الحروب، مع انها تصافح وتجتمع معهم على الثمن.
آن الأوان لهذا الشعب الذي يدّعي التميّز والتحضر ان يعي انّ الطبقة السياسية في كلّ العهود والحكومات المتعاقبة هي المسؤولة ولا أحد سواها. وهي التي بألاعيبها وسياساتها الملتوية والمشبوهة تستنجد وبعد خراب البصرة بالتفاهمات والتسويات التي تحوّلت الى درع واقية لوجودها ومصالحها، وآخرها تسوية حادثة قبرشمون التي طويت صفحتها حرصاً على الاستقرار والسلم الأهلي رغم كلّ ما قيل إنّ وراء الأكمة ما وراءها من اتفاقات وجوائز ترضية لن يطول زمن البوح بها والكشف عنها، وربما يظهر المستور عند فتح ملف التعيينات الإدارية وغيره من ملفات. وتسوية حادثة قبرشمون ليست الأولى ولن تكون الأخيرة لأنّ الطبقة السياسية اعتادت على التسويات ومنها التسوية الرئاسية الحكومية وقانون الانتخاب وتشكيل الحكومة وإقرار الموازنة وقطع الحساب وقبلها اتفاقي الطائف والدوحة والحبل على الجرار.
في مسلسل »تسويات« لبناني طويل مفتوح على كلّ الاحتمالات ولا نهاية له سوى بانتصار الحق على الباطل والعدالة على الفساد والشعب على الطبقة السياسية، وهذا ما لم يحصل في المدى المنظور لانعدام وجود مؤشرات حقيقية لهذا الانتصار، ولتشرذم الحراكات الشعبية والنقابية والسياسية. ويحضرني قول لأحدهم: »الحر الذي يقاتل لتحرير العبيد يخوض معركة خاسرة لانّ العبيد سيتركوه وينحازوا لأسيادهم«، ولكن لا بدّ لليل أن ينجلي…