معرض باريسيّ استعاديّ لمارسيل دو شامب رسّام الأشياء العاديّة
بعد معرض 1977، يحتفي مركز بومبيدو في باريس مرة أخرى بمارسيل دوشامب، أحد أقطاب الفن التشكيلي عالمياً، ويحرص على إظهار بعده الآخر الذي تخلى عنه في مقتبل حياته، ليظهر ما كان من شغفه باللوحة والألوان الزيتية، قبل أن يهجرهما ويختار طريقاً سوف يخلد بها ذكره.
اقترن اسم مارسيل دوشامب 1887 /1968 بالـ«ريدي ميد» ready-made، تلك الأشياء العادية التي كان يلتقطها ويعرضها كما هي، معتبراً إياها عملاً فنياً متكاملاً، وصار كلما ذُكر تبادرت إلى ذهن السامع صور «عجلة دراجة» و«حاملة زجاجة» وخاصة «الينبوع»، تلك المَبْولة التي اكتفى بتغيير وضعها من العمودي إلى الأفقي. ورغم ذلك فالعمل الذي حاز بفضله شهرة عالمية هو «عار ينزل السلّم». لوحة ذات منحى تكعيبي كان ينوي عرضها عام 1912 في صالون المستقلين في باريس، لكن المنظمين رفضوا تعليقها لأنها لا تستجيب لما ينبغي أن يكون عليه العري. فالعاري مثلما قال أحدهم لا ينزل السلم، واعتادوا ألاّ يروه إلاّ جالساً أو مستلقياً على كنبة كما في لوحة «أولمبيا» لإدوار مانيه، أو على فراش كما في لوحة «أصل العالم» لغوستاف كوربيه. لكن لم تمض سنة حتى قابلها الأميركيون بترحاب كبير جعل من إسمها نجم الإنتليجنسيا الأميركية إثر عرضها في متحف أرموريشو في نيويورك. وبذلك انفتحت أمام دوشامب أبواب المجد، ولم يتمّ بعدُ عامه الخامس والعشرين. بل إن صاحب إحدى أروقة الفنون عرَض عليه مبلغ عشرة آلاف دولار في السنة عن أعماله المقبلة. غير أن دوشامب رفض العرض، ثم راح يعرب في أحاديثه عن اشمئزازه من مادة «التيريبنتين» قبل أن يخرج إلى عشاق الفن ونقاده ومؤرخيه والساهرين على متاحفه ومعارضه بمبولة عادية جعلها في وضع أفقي وكتب عليها R. Mutt، في حركة عدّت ساعتها استفزازاً واستهتاراً بالفن. ولم يأت عام 1923 حتى أعلن تخليه عن الرسم نهائياً، ولم يفهم المهتمون بالشأن الفني لِمَ اعتزل ذلك الشاب الذي نشأ في وسط فني وبدأ يمارس الرسم منذ الصغر مقتدياً بأخويه جاك وريمون، مجرباً أغلب الأجناس الفنية مثل البورتريه والمناظر الطبيعية والعري والكاريكاتور، مستفيدا من مختلف المدارس – من الانطباعية الجديدة والرمزية والتوحشية وصولاً إلى انخراطه في التكعيبية-، ومن ارتياده المعارض لتأمل أعمال مانيه ولوكاس كراناخ وبوكلين وماتيس بخاصة.
امتلك من المهارة والتقنية ما جعله يبدع في كل مجال، فهو حين يستعير من التوحشية أسلوبها يتصرف في الألوان واللمسة أفضل من أتباع ماتيس في تلك الحقبة، وحينما يقبل على التكعيبية يمعن في نشر المستويات والخطوط على نحو يكاد يغطي على الصورة، حتى أنه كان عام 1912 أكثر إيغالاً في ذاك المسلك الوعر من أولئك الذين نصبوا أنفسهم منظرين للجمالية الجديدة، مثل ألبير غليز وجان ميتزنغر. وكان إلى ذلك يبدي عناية فائقة لدى الاشتغال على لوحاته، إذ يعمد إلى رسوم دقيقة ذات هندسة معقدة تمهّد دوماً لإنجاز بديع يحيل على لوحات الطبيعة الميتة الهولندية في القرن السابع عشر التي درسها أثناء إقامته القصيرة في ألمانيا، كما هي الحال في لوحة «مرور العذراء إلى عروس» و«عروس» اللتين تثبتان براعته. فما الذي غيّره ودفعه إلى الـ «ريدي ميد»؟ والتصريح صبحا وعشية في فترة ما بين الحربين أن الفن التشكيلي عديم القيمة، وأن «الرسم الزيتي صار يشبه قبعة قديمة»، وأنه يفضل استعمال لوحات رمبرانت كخشبة لكيّ الملابس؟
اختلف النقاد والمؤرخون في تفسير قراره ذاك بعضهم عزا إقلاعه عن الرسم إلى الاستياء الذي خلّفه في نفسه رفض الصالون لوحة «عري ينزل السلّم»، وجعله يقطع صلته بمجموعة التكعيبيين التي ينتمي إليها شقيقاه، فيما يرى آخرون أن السبب يعود إلى مفهومه للفن، إذ كان يبحث عن كيفية صوغ عمل ينسجم مع العصر، وهذا ما تؤكده سيسيل دوبريه مفوضة المعرض التي أكدت أن دوشامب كان طُلَعة يهتم باكتشافات العصر مثل البصريات والأشعة السينية والإشعاعات.
كانت قراءاته تدفعه إلى «إعادة ابتكار الفن التشكيلي»، ثم كانت أعماله تعكس محاولته الإمساك بما لا تدركه شبكة العين، وما لوحة «عري» إلا تطبيق لتحليل الحركة تصويرياً لدى إتيان جول ماريه، كذلك لوحة «الكأس الكبرى» التي حظيت بتأويلات عديدة خيميائية ورمزية وحتى «مالارمية» نسبة إلى الشاعر مالارميه .
كان يجرب أصباغاً من أنسجة الحيوان أو النبات وأكسيد الرصاص الأحمر وأسلاكاً رفيعة من الرصاص، وخيّر الزجاج على القماشة ليثير البعد الرابع، لكن بعد جهود مضنية دامت أربع عشرة سنة، تخلى عن تلك التجارب، «مثل شخص يتوقف عن مهمة بدت له مستحيلة»، كما تقول سيسيل دوبريه، وهذا ما لا يخالفها فيه الأكاديمي جان كلير، فهو يفسر إقلاع دوشامب عن الرسم كـ»نتيجة لخيبة حلمه بالجمع بين العلم والفن».
بقي أن نقول إن دوشامب تخلّى عن دوره الاجتماعي كفنان، لكنه لم يتخلّ تماماً عن الفن، ففي عام 1935، جمع نماذج مصغرة من أعماله في «علبة – حقيبة» بحسب تسميته، كمتحف متنقل كان يجوب بها العالم.