الفقرُ إلى الشارع المصري مجدّداً ويتعقبهُ «الأخوان»!

د. وفيق إبراهيم

عندما يجتاح الفقر نحو ستين مليون مصري بينهم أربعون مليوناً يقبعون في أسفل خط البؤس، يصبح من الطبيعي أن يغتنم المصريون اي فرصة للعودة الى الشارع في خطوات تبدأ بالاحتجاج العنيف، وتزداد الى حدود الانتفاضة كلما تصاعدت تدابير القمع الأمنية.

ما يؤدي إلى هذا الوضع المتكرر منذ ثمانينيات القرن الماضي هي معادلة تقوم على الخلل بين إنتاج مصري داخلي محدود أصبح ربيعياً على حساب التراجع الرسمي بالتصنيع الداخلي وبين حاجات مصرية أساسية تزيد عن ضعفي المطلوب داخلياً، فيزداد عدد الفقراء سنوياً إلا أن هذا جانب من المأساة في مصر. فالطبقة السياسيّة الحاكمة ومنذ مرحلة السادات، اعتقدت أن العجز الاقتصادي رهن سياسة مصر الخارجية لصالح الخط الأميركي في الإقليم. هذا ما فعله الرئيس المصري السابق انور السادات الذي ذهب بعيداً في تدمير النظام العربي العام، ومحاولة إلغاء القضية الفلسطينية بالاعتراف بـ»إسرائيل» وسحب مصر من هذا الصراع عبر توقيع اتفاقية كمب ديفيد 1979.

لقد وعده الأميركيون والإسرائيليون بتنفيذ خطة لازدهار مصر على شاكلة خطة «مارشال» الأميركيّة التي انقذت دول اوروبا من النتائج التدميرية للحرب العالمية الثانية.

وفي نظرة سريعة يتبين وبعد أربعين عاماً على توقيع السادات لكمب ديفيد ان مصر ازدادت بؤساً وفقراً وخسرت دورها الإقليمي وسط عجزٍ حتى عن تأمين الإدارة الداخلية المستقرة للبلاد، فما ان تنتهي تظاهرة حتى تنطلق أخرى والإرهاب يضرب سيناء ومناطق ريفية اخرى بشكل يومي، لم تنفع خطابات السيسي في احتوائها كما أن ارتماء النظام المصري في الخطة الأميركية السعودية الإسرائيلية إقليمياً لم تجذب اليه استثمارات ومساعدات كافية من الخليج، فيما ازدادت ديون مصر نحو 106 مليارات دولار جرى إنفاقها على بناء قصور رئاسية، وأصبح فساد الطبقة الاقتصادية الحاكمة شاملاً لكل مواقع الإنتاج ومغطىً من اثنين من أولاد السيسي عيّنهما عيوناً له على رأس المخابرات العامة المصرية.

هناك اذاً اجتماع للفساد السياسي والفقر ودكتاتورية رجل واحد، يبذل جهوداً بواسطة «الطرائف» و»النكات» التي يطلقها في خطاباته لاحتواء الشارع الذي يحتاج الى طعام أكثر من خفة سياسيّة لا تشبع أحداً حتى أن تنازل مصر للسعودية عن جزيرتي تيران وصنافير لا يزال موضع غضب الشارع المصري الذي يجزم أن أولاد السيسي استولوا على ثمن الجزيرتين من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

هذا جزء بسيط من فيض كبير عنوانه السطو السياسي على المالية العامة للبلاد في كل الصفقات والتعاقدات والمساعدات، حتى أن الاستثمارات الخليجية في «المحروسة» تتبدّد في أكبر حركة فساد سياسي وإداري منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي.

يتبين أن هناك تزامناً بين انهيار الدور المصري العربي والإقليمي وبين تفاقم الانهيارات الاقتصادية، خصوصاً أن السياحة في تراجع بسبب الأوضاع المضطربة سياسياً في الاقليم.

الامر الذي يكشف عن عمق الارتباط بين الفقر والسياسة الداخلية والخارجية والفساد السياسي والإداري، فيصبح الخارج العربي والأميركي في هذه المعادلة قوة ضغط تدعم النظام السياسي في وجه الفقراء فقط، باعتبار أن جزءاً من سياسات إقليميّة أميركية وخليجية، لا يميل عنها قيد أنملة.

لذلك فالظروف الشعبية للتغيير موجودة، ومتهيأة على الرغم من ضراوة القمع الذي تمارسه أجهزة الأمن والجيش في معظم الأحيان حتى ان الاعتقالات المسبقة أصبحت سياسة روتينية يتوقعها كل مواطن من الفجر حتى مطلع الفجر.

لكن هذا الأمر أصبح روتينياً بسبب عدم «أهلية» القوى السياسية التي تطرح نفسها بديلاً للسيسي، فالقوى الأساسية في مصر هي الجيش والمخابرات وأجهزة الأمن والشرطة الى جانب عشرات الأحزاب الوطنية المصرية والقومية و»الاخوان المسلمين».

فهناك أحزاب التحالف الشعبي الاشتراكي والكرامة والدستور وخطة الأمل والحركة المدنية والديموقراطية والحزب المصري الديموقراطي وعشرات الحركات الناصرية والطبقية والوطنية المصرية الصرفة.

لكن كل هؤلاء لا يعادلون جزءاً بسيطاً من نفوذ «الاخوان المسلمين» الموضوعين على لائحة الإرهاب لدى الدولة المصرية منذ 2013.

لذلك يجد المواطن المصري حركته أسيرة وضعين سيئين: طبقة سياسية فاسدة بكل أجنحتها وتراكماتها على الرغم من التباينات بين بعض فئاتها، وبين الاخوان المسلمين الذين يعملون من اجل ربط مصر بفدرالية أخوانية عالمية يترأسها حزب العدالة والتنمية التركي، فلا يعرف هذا المواطن في أي اتجاه ينطلق، خصوصاً أن الأحزاب المدنية الأخرى ضعيفة ولا تحترف فنون تحريك الجمهور والالتزام بحاجاته الأساسية.

لكن المصريين باتوا مقتنعين أن تحسين الوضع الاقتصادي مرتبط بحركتين: ضرب الفساد الداخلي وعودة مصر الى دورها الإقليمي، لكنه يخشى من سياسات خليجية مضادة تؤدي الى طرد العمالة المصرية من الخليج. وهذا من شأنه التسبب بالمزيد من انهيار الوضع الاقتصادي، وهناك معلومات اضافية تعتقد أن الصمت الاميركي السعودي عن التظاهرات الحديثة هي وسيلة لضبط بعض حركات التمرد التي يقوم بها السيسي وأبرزها ما قاله مؤخراً في لقاء إعلامي كبير، أن دولاً خارجية دعمت الإرهاب لتفتيت سورية مضيفاً بلهجته المصرية: «بيسوي إيه الشرق من دون سورية»؟

يتبين بالنتيجة أن الاخوان المسلمين عبر حركة المحطات الإعلامية القطرية والتركية ينتظرون تطوراً أوسع في حركة الجمهور ليعاودوا احتلال شوارع المدن المصرية.

فيزداد الاضطراب وتسقط الدولة ويعود الأخوان الى الحكم من بوابة الفقر المدقع.

لكن الأميركيين والسعوديين لن يسمحوا بمثل هذه التطورات. وهم بالتالي عائدون لدعم السيسي وتغطية حركته القمعية لتزيد من سيطرة المخابرات على تفاعلات الناس بما فيها ضبط الأنفاس والاكتفاء بإطلاق النكات على الطريقة المصرية إلى أن تتشكل الظروف الداخلية والخارجية لانتفاضة تعيد مصر الى قيادة الإقليم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى