فتحُ المعبرِ السوري العراقي بدايةُ تأسيس لمعادلةٍ إقليمية!
د. وفيق إبراهيم
العلاقة بين الاقتصاد والسياسة مسألة تاريخية تبنّاها العالم معاوداً إنتاجها على شكل نظرية قابلة للتطبيق عن عمدٍ وليس فقط عبر التطوّرات الاجتماعية البطيئة.
لعلّ هذا ما دفع بالجانبين السوري والعراقي إلى الإصرار على فتح معبر «القائم» العراقي و»البوكمال» السوري عند حدود البلدين المؤدّية إلى دير الزور والبادية والأنبار، وبالتالي الى كامل مناطق البلدين.
إنّ أهمية هذا المعبر تبدأ بقدرته على وصل ما انقطع من علاقات اجتماعية واقتصادية بين سورية والعراق نتيجة للاحتلال الأميركي لأرض الرافدين في 2003 وانتشار الإرهاب في سورية منذ 2001 والاحتلال الأميركي المباشر، والمغطى بالأكراد في شرق سورية وشمالها، إلا أنّ نجاح الدولة السورية بتحرير 65 في المئة من مساحة بلادها إلى جانب انتصاب نظام قوي سياسياً وعسكرياً، الى جانب تطهير العراق معظم أراضيه من الإرهاب، دفع إلى إحداث تغيير في معادلة الاستسلام للضغط الأميركي.
فموازنات القوى تغيّرت والآليات المحلية البديلة التي وصفها الأميركيون لا تعادل قوى الدولتين السورية والعراقية ولو كانت مسنودة من القواعد الأميركية المجاورة والمنتشرة من كردستان العراقية إلى الحدود الشمالية السورية.
هذا الانقلاب في التوازنات أرغم الأميركيين على التراجع عن قرار حاسم كانوا يطبّقونه بعنف شديد. وهو المنع الكامل لأيّ فتح في الحدود بين سورية والعراق حتى ولو بحجم كوّة ضوء صغيرة، لاعتبارات جيوبوليتيكية يرى الأميركيون أنّ فتحها يؤدّي إلى وصل سورية والعراق بإيران وروسيا، في مرحلة تراجع للأحادية الأميركية، لذلك بذل الأميركيون جهودهم العسكرية والسياسية لسدّ ايّ إمكانية لفتحها، متوصّلين الى تعطيلها في السنوات الخمس الأخيرة.
لا بدّ من الإشارة الى انّ ظروف هذا الفتح تشكل معاندة قوية من البلدين، لكنها لا تلغي إمكانية التعطيل المتواتر والمرتقب له، لأسباب متعدّدة تأتي في مقدّمها قاعدة التنف الأميركية غير البعيدة عن المعبر، وبعض البؤر الإرهابية المتداخلة مع الأميركيين في مخيمات الركبان وأبو الهول، بما يكشف عن نيات أميركية لتعطيل حركة المعبر عبر الإشراف الدقيق على حركته من خلال نقاط عسكرية أميركية تنتشر على الطرق المؤدّية إلى المعبر في الداخلين السوري والعراقي.
هناك مَن يعتقد أنّ وظائف المعبر الاجتماعية الاقتصادية تتعدّى حركة الضبط الأميركية بما يكشف عن إمكان تبلور هذه الوظائف نحو التنسيق السياسي الطبيعي في مثل هذه الأمور، فليس معقولاً أن يتراكم التنسيق الاجتماعي الاقتصادي من دون آليات سياسية ترعاه وتعمل على تطوّره ليصبح ناظماً لحركة عميقة في بلديهما أولاً ومع الدول المجاورة ثانياً.
ضمن هذا التصوّر الذي ينبع من تخطيط مقصود من قيادات البلدين، يجب الانتباه إلى نقطة أساسية وهي انّ انهيار العالم العربي إنما جسّد أهداف اتفاقية كامب ديفيد المصرية الساداتية مع «إسرائيل» 1979 التي أرادت تدمير القضية الفلسطينية وسحب مصر من الصراع العربي الإسرائيلي في محاولة لنسف المسألة الوحيدة التي كان العرب يلتقون فيها وحولها وبذلك يُمكن للأميركيين إعادة تشكيل وتفتيت المنطقة العربية على النحو الذي يلائم هيمنتهم الجيوبوليتيكية مستغلين انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989 وتفرّدهم بالقوة العالميّة.
بذلك يتّضح أنّ لهذا المعبر الصغير في البوكمال القائم أهميات كامنة تبدأ من الوظائف العادية في الانتقال الاجتماعي الاقتصادي وسرعان ما تنتقل تدريجياً للتعبير عن ضرورات التنسيق بين سورية والعراق في مواجهة أعباء الداخل وحركة الخارج مع التيقظ الدائم لحركة قاعدة التنف الأميركية وقدرتها على الاستثمار في بؤر إرهابية قد تؤسّس كجاري عادتها لعمليات إرهابية على المعبر بإسناد أميركي أو خليجي وحتى تركي لأنّ المتضرّرين من فتح المعبر كثر، ويتربّصون لعرقلة وظائفه في كلّ لحظة، ما يؤدّي إلى صراع دائم بين مستفيدين مباشرين وهم بدورهم قوى وازنة وبين المتضرّرين الأميركيين والخليجيين والأتراك والإسرائيليين. وهؤلاء قصفوا محيط المعبر من جبهتيه عشرات المرات وفشلوا في منع فتحه.
بالإضافة الى بلدَيْ المعبر، فهناك إيران وروسيا اللتان تتهيآن للانخراط في معادلة هذا المعبر كتأكيد على تراجع الأحادية الأميركية، وتقدّم روسيا في العالم المتعدّد القطب الى جانب الصعود الإيراني المتواصل.
اما المتضرّرون فهم جماعة كامب ديفيد من الأميركيين والخليجيين والاتراك ولن يهدأوا لإعادة إقفاله بالوسائل العسكرية والإرهابية والسياسية.
ولديهم قوى داخلية في البلدين موالية لسياساتهم تواصل التحريض على كلّ انفتاح بين سورية والعراق.
يتبيّن بالاستنتاج أنّ معبر القائم – البوكمال هو المرحلة الأولى في سياق إنتاج معادلة عربية بديلة من النظام العربي القديم الذي أسقطته كامب ديفيد.
فهل يمكن لهذه المعادلة مقاومة الانتشار العسكري الأميركي في بلديهما؟
إنّ قوّتها ظهرت في نجاحها في فتح المعبر. وهذا ليس عادياً في مرحلة غضب أميركي يضرب ذات اليمين وذات الشمال، لكنه يتراجع برفضه فتح حرب مع إيران والسكوت على مضض بفتح المعبر.
لذلك، فالآمال كبيرة على التدحرج عن نظام عربي جديد ينطلق من معادلة سورية والعراق التي تجمع ستين مليون مواطن تقريباً، وتربط بين بحري الخليج والمتوسط، كما تحاذي كلّ أركان الصراع الإقليمي في السعودية وإيران وتركيا بالإضافة إلى القواعد الأميركية المنتشرة في المنطقة.
ويبدو أخيراً أنّ القيادة السورية المتحرّرة أكثر من العراقية تعتبر انّ هذه المعادلة هي إنقاذ لسورية وكامل المنطقة العربية المختبئة في عباءة كامب ديفيد والمطامع التركية والأوروبية وبلطجة «إسرائيل» وأعوانها.