جنون أميركي متصاعد يُهدّد أمن العالم؟
د. وفيق إبراهيم
الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الأولى في العالم بطبقة وسطى تقترب من نسبة الخمسين في المئة من سكانها، وقوة تمسك بالتفاعلات الاقتصادية العالمية من خلال الدولار المعولم من جهة، وتقدمها الانتاجي من الإبرة حتى الصواريخ والاتصالات والازياء والطعام والجينز من جهة ثانية. يكفي ان لديها مئة وسبعين قاعدة عسكرية تنتشر في زوايا الأرض في ضيافة حلفائها السياسيين مع عشرات المنظمات والجامعات السياسية الموالية لها في القارات الخمس الناتو – الاتحاد الأوروبي – جامعة الدول العربية، منظمة الوحدة الأفريقية، منظمة العالم الاسلامي… .
لذلك فهذه الدولة هي الأقوى بالاستيراد والتصدير والنفوذ العالمي منذ ستينيات القرن الماضي. واحتكرت نظام القوة الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989.
طيلة ثلاثة عقود فقط من هذا التفرد بإدارة العالم افتعلت أميركا عشرات الحروب المباشرة لإعادة هندسة البلدان على نحو متناسب مع استمرار هيمنتها الأحادية، واوقعت ملايين القتلى من آسيا الوسطى والشرق الاوسط وافريقيا الشمالية والسوداء واوروبا الشرقية.
فماذا كانت النتيجة؟ اقتصادياً نجحت الصين والمانيا واليابان والهند بواسطة نظام العولمة من تسجيل صعود اقتصادي استفاد من الفتح الكبير للحدود السياسية إلى جانب الإعلام الكوني الذي أوجد تقاطعات كبيرة بين البشر في الاستهلاك المتشابه.
كان طبيعياً ان يأتي صعود هذه الدول على حساب قوة الاقتصاد الأميركي ومن عائداته الاقتصادية بشكل مباشر.
لكن ما زاد الأمر سوءاً بالنسبة للأميركيين مواكبة تراجعاتهم الاقتصادية بصعود سياسي عسكري كبير لروسيا وإيران التهم بدوره جزءاً هاماً من مناطق عالمية كانت ترزح تحت ضغط الجيوبوليتيك الأميركي.
لجهة الروس، فعادوا الى الشرق الاوسط من بوابة سورية على قاعدة تأسيس علاقات متينة مع الصين والعراق والسعودية ومصر وأميركا الشمالية في فنزويلا وبوليفيا وآسيا الوسطى واوروبا الشرقية في اوكرانيا وجورجيا عاقدين علاقات جيدة مع القوقاز والصين والهند، أما اللافت في هذه العودة الروسية فإنها تجمع بين التمدّد الجيوبوليتيكي وبيع السلاح الروسي المتقدم.
لكن الدولة الأميركية العميقة وجدت ان من الضروري ان تلجأ الى ابتكار نظام حروب جديدة لحماية تفرّدها العالمي، فاكتشفت حروب الاقتصاد ترياقاً يكبح تقدم الدول الصاعدة، مع ابتكار حروب إقليمية بآليات محلية لاستنزاف القوى الصاعدة، هناك ثلاثة نماذج هي حالياً تحت نيران التصويب الأميركي المباشر، الصين أولاً لأنها نجحت ببناء اقتصاد كوني منافس يحتاج الى بضع سنوات ليتجاوز نظيره الأميركي وأصبح من غير الممكن منافسته بجودة البضائع ورونقها لأن الفقر يجتاح العالم، كما أن جودة البضائع الصينية تواصل ارتفاعها.
هذا ما دفع بالأميركيين الى العودة الى النظام الحمائي للأسواق وإيقاف خدمات نظام العولمة.
وبما أن هذا لا يكفي، فرافقته بسيل من العقوبات الاقتصادية على منافسيها وحلفائها بذرائع شتى، منها الزعم بأن الاقتصاد الصيني يسرق نماذج الصناعات الأميركية ويقلّدها، وأخرى تتعلق بما تدّعيه أميركا من خنقٍ صيني لأقلية الإيغوز الإسلامية الصينية.
فيتبين ان الأميركيين مذعورون من التقدم الصيني الاقتصادي المتواكب مع تقدّم هائل من صناعة السلاح.
وهذه معادلة تنتج على الفور اجتياحاً صينياً لنظام تعدد الأقطاب وربما بمكانته الاولى.
لذلك يتوقع الأميركيون أن تبدأ الصين بتثبيت جيوبوليتيك عالمي خاص بها بعد نصف عقد فقط على أساس استكمال العلاقة عندها بين اقتصادها الكوني الشاسع والمترامي الأطراف وبين صناعة سلاح تسجل تطوراً نحو النوعية بسرعة فائقة.
هذا يؤكد ان الدولة الأميركية ذاهبة نحو اختراع عراقيل داخل الصين لكبح تطورها الى جانب إصرار أميركي على الامساك بالاسواق العالمية من خلال السيطرة على دوله السياسية، خصوصاً في مناطق الاستيراد في الشرق الأوسط وأفريقيا، الامر الذي يفسر الإصرار الأميركي على تدمير سورية وإيران معاً ومواصلة حروب الصومال وجيبوتي والاضطرابات في الجزائر والسودان وليبيا والقرن الأفريقي.
فما يفعله الأميركيون في سورية هو النموذج لجنون متواصل يريد تفتيتها والإمساك بها لأنها قلب الشرق ومفاتيحه السياسية والاقتصادية.
فحين يرى البيت الأبيض ان الدولة السورية تكاد تستعيد عافيتها يسارع الى تفجير حرب جديدة لاستنزافها. فأين توجد دولة تعطي اذناً لدولة ثانية باجتياح أراضي دولة ثالثة؟ ترامب الأميركي وافق على طلب اردوغان التركي باحتلال شمال سورية وشرقها بذريعة اقتلاع إرهاب مدعوم أصلاً منهما باعتراف كل دوائر القرار العالمية.
اما إيران فهي المثال على جنون أميركي يريد السيطرة عليها منذ اندلاع ثورتها قبل اربعين عاماً.
وما تتعرّض له من حرب اقتصادية أميركية لها اثر عالمي لم يسبق لدولة معاصرة ان تعرضت لمعاييره.
هنا ايضاً الاسباب واضحة وترتبط بنجاح إيران في بناء شبكة تحالفات في قلب الجيوبوليتيك الأميركي في العالم الإسلامي.
فهل يمرّ هذا الجنون الأميركي من دون تداعيات؟
هناك خشية من تسببه بحروب قد تمتدّ من المحلية والإقليمية الى الدولية التي لا يحمد عقباها.
لأن الاحادية الأميركية لا تزال ترفض الإقرار بتراجعها وصعود قوى جديدة لها أوزان دولية وإقليمية، فتواصل اختراع وسائل لعرقلة هذا التحول الدولي، مقابل إصرار من القوى الصاعدة على التموضع في المواقع الجديدة التي تستحقها.
هنا يراهن البعض على قوى أميركية داخلية وأوروبية لقيادة حملة تطهير البيت الابيض من مجنون يواصل قيادة العالم نحو الهاوية.