روسيا بين السعودية والإمارات.. شراكة وترسيخ الوجود
سماهر الخطيب
تبنت روسيا في السنوات الأخيرة، مواقف في سياستها الخارجية أحيت التطلعات بعودة التوازن إلى النظام الدولي. عبر مساعيها في التأثير بالمجريات الدولية والإقليمية الفرعية.
إذ شكّل انهيار الاتحاد السوفياتي الأثر الكبير الذي انعكس على مستقبل السياسة الخارجية الروسية واستراتيجيتها تجاه المنطقة، بعدما تفردت الولايات المتحدة كـ»إمبراطور العالم»، فعملت روسيا على التخلص من أزماتها السابقة واستثمار ما تمتلكه من امكانيات لتعظيم عملية التنمية الداخلية وعكسها خارجياً بما يعزز مكانتها الجديدة على مسرح السياسة الدولية والإقليمية.
استعادة المكانة..
وما ساعد روسيا الاتحادية على تعزيز مكانتها الدولية والإقليمية ظهور العديد من التطورات الإقليمية والدولية التي لعبت الدور الأكبر في إعادة رسم خرائط توزيع النفوذ في المنطقة، حيث وجدت روسيا نفسها أمام العديد من الفرص الذهبية التي من شأنها العودة لدورها المعتاد في السياسة الدولية، خاصة بعد أحداث «الربيع العربي» والأزمة السورية، وبروز الدور الروسي كعامل توازن أساسي في حل الملفات الشائكة وما أثارته السياسة الأميركية من تأزيم الأوضاع في المنطقة تحقيقاً لسياستها المصلحية في ابتزاز دول المنطقة وجعلها في ركبها وتابعاً لها ومورّداً للثروات والغذاء..
في حين عملت روسيا على توثيق علاقاتها مع دول المنطقة، وتحديث قائمة حلفائها، بما يتضمن تلك الحليفة للولايات المتحدة حيث قدّمت روسيا نموذجاً أكثر قوة وإصراراً ووضوحاً أدّى إلى جذب حلفاء لأميركا، وأعداء لها في الآن نفسه.
رؤية روسيا الاستراتيجية في المنطقة
ومن يتابع التحرّك الروسي في المنطقة يجد أنّ السياسة الروسية تجاه المنطقة تم استخدامها في مواجهة النفوذ الغربي، لتعظيم المكاسب الاستراتيجية تزامناً مع تحسين الوضع الداخلي الخاص بها اقتصادياً وعسكرياً.
ونتيجة لتلك الرؤية الاستراتيجية، بات تركيز السياسة الخارجية الروسية، على تقديم الدعم السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والعسكري لحلفائها الرئيسيين، وما ساعد على تحقيق هذه الرؤية بخطوات متسارعة هشاشة النظام الإقليمي للمنطقة، والحروب التي أشعلتها الولايات المتحدة في محاولة لتشكيل ستار ناري يقف في وجه المشروع الصيني التنموي «الحزام والطريق» ما جعل من اليسير على روسيا استخدام أقل الإمكانات لتحقيق مكاسب عديدة، وروسيا لا تحتاج فعل الكثير حتى تؤكد رؤيتها الاستراتيجية في المنطقة، خاصة في سياق تراجع التأثير الغربي داخلها وخوفه من الملف الأهم «اللاجئين» وتبعاته.
وبالرغم من المشاكل الاقتصادية التي واجهتها موسكو إبان انهيار الاتحاد السوفياتي إلا أنها أصبحت ذات وجود مؤثر على خريطة السياسة العالمية، حيث عادت روسيا لتلعب دوراً فاعلاً، وتتخذ مواقف واضحة في العديد من القضايا الدولية والإقليمية.
دوافع الدور الروسي في المنطقة
ويتمثل الدافع الرئيسي للدور الروسي الجديد في المنطقة في بعدين أساسيين، أولهما أنه ذو بعد داخلي يتمثل بتحقيق مكاسب داخلية على مستوى الاقتصاد والاستقرار الداخلي الروسي، وثانيهما ذو بعد خارجي يتمثل بدعم ومساندة الحلفاء والبحث عن حلفاء جدد، وتشكيل خريطة من العلاقات تحقق رؤيتها العالمية في إيجاد عالم متعدّد الأقطاب وليس القطب الأميركي فقط، وبالتالي شملت دوافع ومحددات داخلية وخارجية نابعة من الرؤية الاستراتيجية الروسية، ولأن منطقتنا إحدى أهم المناطق الجيوستراتيجية من حيث توزيع المقدرات النفطية والثروات الطبيعية، والممرات المائية، أدركت روسيا بأن هذه المنطقة تمثل مفتاحاً للعديد من الملفات الإقليمية والدولية، يمكنها من إعادة رسم الخريطة الإقليمية والدولية وخلق تحالفات إقليمية ودولية وتطوير الروابط بينها وفق المتغيرات المستجدة على الساحة.
كما أنّ التوجهات الروسية تأتي في إطار السياسة المتعلقة بتوريد الأسلحة لتأمين حلفائها وضمان استمرارية هذا الحلف، على خلفية حساسية المنطقة تجاه الصراعات التي استحدثتها الولايات المتحدة لتغير موازين القوى في المنطقة وفق مصالحها.
حيث استخدمت أميركا دول المنطقة كأدوات لتحقيق المصلحة الأميركية في حين تتجه روسيا إلى التحالف مع دول المنطقة لتحقيق رؤيتها في إيجاد قوى إقليمية وعالمية تعيد التوازن إلى النظام الدولي والسيادة للدول والفعالية القانونية لقرارت المجالس الأممية..
وفي خدمة تلك الرؤية حاولت روسيا استدعاء القوى الدولية المتوافقة معها سياسياً وعسكرياً، بما يضمن لتلك القوى بالتحالف مع موسكو التأثير بالملفات الموجودة على الساحة وما يستجدّ منها.
إذاً عند تحليل الدور الروسي في المنطقة، والتعرّض إلى علاقات روسيا وتفاعلاتها مع دول المنطقة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، نجد أن موسكو استطاعت نسج خيوط علاقاتها على الساحة العربية، وسحب البساط بصورة كبيرة من قبضة واشنطن، عبر إنهاك الولايات المتحدة سياسياً وعسكرياً عن طريق مزاحمتها في العديد من الملفات المثارة في المنطقة.
ويمكن تفسير العلاقات السياسية الروسية بأنها جاءت مناوئة في معظم مخرجاتها للتوجّهات الأميركية في توجه روسي بالسعي لإنشاء نظام عالمي متعدّد الأقطاب.
وعلى ذلك تباينت السياسة الروسية تجاه العديد من القضايا في المنطقة والتي كانت في معظمها مناهضة للسياسة الأميركية، فالسياسة الروسية في المنطقة العربية كالسياسة الروسية تجاه محيطها الجغرافي القريب في آسيا وأوروبا الشرقية، بما يحافظ على تعزيز الوجود الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991.
بوتين بين السعودية والإمارات
وضمن هذه الاستراتيجية، حلّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمس، ضيفاً في الإمارات في زيارة هي الأولى من نوعها منذ عام 2007، عقب زيارته للرياض أول أمس، في زيارة هي الثانية له منذ العام 2017 بهدف تعميق العلاقات الروسية السعودية والروسية الإماراتية، ونقلها الى آفاق أوسع وأرحب.
ولا شك في أن توقيت الزيارة يؤكد على حجم التنسيق والرؤية الروسية في الخليج بذراعيه السعودي والإماراتي، إذ قطعت روسيا خلال السنوات الماضية، طريقاً طويلاً في مجال تطوير علاقاتها مع دول الخليج، عبر الاستثمارات المشتركة والتعاون «الطاقوي» إلى المشاريع الثقافية والاقتصادية وصولاً إلى تخفيف الإجراءات المتبادلة في مجال التأشيرات.
ولم يكن التنسيق الروسي مع دول الخليج مقتصراً على سوق الطاقة بل امتدّ ليشمل التنسيق السياسي والاقتصادي والعلمي والسياحي والفضائي ليثمر فيما بعد عن إعلان شراكة استراتيجية وتعاون اقتصادي وثقافي وعلمي ليس فقط بين روسيا والسعودية، إنما مع الإمارات أيضاً إذ تنظر روسيا إلى دولة الإمارات «كأحد شركائها الواعدين، والقريبين جداً».
وتعتبر روسيا إعلان الشراكة الاستراتيجية تتويجاً لمسار طويل من التنسيق والتعاون في شتى المجالات وليس وليد الصدفة، إنما دلالة على نوعية العلاقات وطابعها الاستراتيجي الطويل الأمد.
وهو ما أكد عليه الرئيس بوتين عشية زيارته للإمارات بقوله « لن أكشف سراً كبيراً، إذا قلت إننا على اتصال دائم مع قيادة دولة الإمارات، بل ونشأت لدينا تقاليد وممارسات معينة، فلدينا إمكانية ضبط ساعة نشاطنا على توقيت واحد في اتجاهات وقضايا مختلفة، ونقوم بذلك، لما له فائدة كبيرة للمنطقة بأسرها».
وتحقيقاً للفائدة المنشودة حمل بوتين في حقيبته إلى الإمارات ملفات عدّة وفي مقدمتها الاقتصادية كإحدى أهم الملفات، بالنظر إلى حجم وثقل اقتصاد البلدين، إذ ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين بنهاية عام 2018، بنسبة 21 بالمئة، مقارنة بعام 2017، بقيمة 3 مليارات دولار.
وبالنظر إلى إعلان الشراكة الاستراتيجية كإطار مؤسسي لتطوير العلاقات الثنائية المشتركة بين البلدين في مجالات التجارة والاقتصاد والمالية والاستثمار والثقافة والعلوم والتقنية والفضاء.
نستذكر المشاركة الإماراتية الواسعة في قمة «أقدر» التي استضافتها موسكو في أيلول الماضي والتي تمثلت بمشاركة 12 مسؤولاً بينهم 8 وزراء الأمر الذي برهن على حجم ومستوى العلاقات الاستراتيجية بين البلدين وتؤكد أن أفق العلاقات مثمرة ومزدهرة، لتشمل كذلك مجال الطاقة النووية السلمية عبر اتفاقية تهدف إلى «توثيق التعاون بين الجانبين في مجال الطاقة النووية السلمية»، كما يتعاون البلدان بحثياً بين جامعة خليفة للعلوم والتكنولوجيا ومعهد موسكو لهندسة الطاقة التي تهدف إلى تبادل الخبرات في مجالات الذكاء الاصطناعي وهندسة الطاقة والقوى الكهربائية.
إضافة إلى الملف الثقافي الحاضر بقوة خلال الزيارة والتي من المقرّر أن تشهد انطلاق الاسبوع الثقافي الإماراتي الروسي. والملف السياحي، فقد شهدت السياحة الروسية إلى الإمارات انتعاشاً ورواجاً وأصبحت الإمارات إحدى الوجهات المفضلة للسياح الروس الذين يتصدّرون قائمة أكثر الجنسيّات زيارة لهذه الدولة خلال السنوات الثلاث الماضية.
ونذكر هنا قرار الإلغاء المتبادل للتأشيرات بين البلدين اعتباراً من شهر شباط العام الماضي ما أسهم في زيادة عدد السياح الروس إلى الإمارات.
كما يتجاوز عدد الشركات الروسية التي تعمل في دولة الإمارات 3 آلاف شركة، في حين تخطى حجم الاستثمارات الإماراتية في العديد من المشاريع الروسية حاجز 3.8 مليار درهم من خلال الصندوق المشترك بين البلدين.
لا شك في أن الزيارة والملفات التي ستناقشها تؤكد على متانة وقوة العلاقات بين البلدين وعلى الآمال المعقودة عليها لإرساء ركائز صلبة لمسار العلاقات الاستراتيجية ضمن السياسة المتوازنة التي تنتهجها روسيا كعامل توازن في المنطقة سعياً نحو أجندة عالمية تقوم على التعاون والتنسيق بدلاً من الحرب والتدمير..
أما زيارته للسعودية فأكد خلالها أن «موسكو والرياض تؤيدان مواجهة التهديدات الإرهابية وحل الأزمات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالطرق السلمية».
وما يهم روسيا بشكل أكبر هو بث الاستقرار في سوق النفط العالمية، فكان توقيع ميثاق تعاون طويل الأمد في إطار «أوبك +» مع الرياض أول أمس، وعلق بوتين على هذا الميثاق بأن «العمل المشترك بين موسكو والرياض في أسواق الطاقة يؤدي إلى تسوية الوضع ويأتي بثماره في العموم.. فمن خلال المشاركة النشطة لبلداننا، تمكنا من تمديد اتفاق أوبك+ إنتاج النفط».
وإذا ما عدنا إلى بداية التعاون الاستثماري بين البلدين فأننا نجده في اتفاقية الشراكة التي تمّ توقيعها منتصف عام 2015 بين الصندوق الروسي للاستثمار المباشر، والصندوق السعودي للثروة السيادية، حيث وافق الصندوقان على استثمار 10 مليارات دولار في الاقتصاد الروسي، لدعم مجالات البنية التحتية، والمشروعات الزراعية.
وفي إطار هذه الشراكة الثنائية بين البلدين، تمّ إنشاء صندوق الاستثمار الروسي السعودي، وتوظيف استثمارات بقيمة ملياري دولار عبر هذا الصندوق وجرى ضخّها في روسيا العام الحالي، ويبدو أن قيمة الاستثمارات الثنائية ستتضاعف خلال السنوات القليلة المقبلة، بسبب نجاح البلدين من خلال مجموعة «أوبك +». ويعتبر الاتفاق على خفض إنتاج النفط بين منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك والبلدان غير الأعضاء في أوبك، من بين أكثر الأمثلة المذهلة للتعاون المثمر بين روسيا والسعودية حيث نصّت اتفاقية «أوبك +»، الموقعة في كانون الأول 2016، على خفض إنتاج 1.2 مليون برميل يومياً حتى نيسان 2020.
وعلى الرغم من الانتكاسات التي وصلت إلى حد الأزمة في العديد من دول أوبك ومحاولات الولايات المتحدة الاستحواذ على حصة المجموعة في السوق، إلا أنّ البلدان مثّلا جبهة موحدة في مواجهة التحديات الكثيرة التي تشهدها صناعة الطاقة. إذ اتفق الرئيس بوتين وولي العهد السعودي، مؤخراً، على هامش قمة مجموعة العشرين في أوساكا اليابانية، في شهر حزيران الماضي، على اتخاذ موقف موحّد بشأن مستقبل اتفاق أوبك+ ، حيث قرّرا تمديد الاتفاق وفق الشروط ذاتها حتى قبل أن تلتئم مجموعة دول أوبك+ في فيينا بشكل رسمي.
وبالتالي يمكن اعتبار تقارب الرؤى بين موسكو والرياض حول سوق الطاقة سيؤدي إلى التنسيق فيما بينهما بما يتعلق بأسعار السوق. وغيرها الكثير من الأمور المشتركة التي تستهدف الاستراتيجية الروسية تحقيقها ضمن رؤيتها وعلى سبيل المثال هناك 20 مشروعاً استثمارياً روسياً – سعودياً بقيمة إجمالية تتجاوز 10 مليارات دولار قيد الدراسة حالياً، وذلك وفقًا للمدير العام لصندوق الاستثمارات المباشرة الروسي كيريل دميتريف.
حقيبة تنموية
إذاً يحمل بوتين في حقيبته ملفات تنموية قائمة على التعاون والتنسيق الاستراتيجي كامتداد للاستراتيجية الروسية في المنطقة بتحقيق التوازن ووضع حلول للأزمات المشتعلة وتقريب وجهات النظر لإيجاد عالم متوازن قائم على مبادئ السيادة والتعاون والشراكة وليس التحكم والتهكم.. ضمن رؤيته الأوراسية الجديدة لعلها تمهّد الطريق لاستعادة جزء كبير من دورها على الساحة الدولية، وتنطلق منه للحفاظ على مصالحها المنصهرة مع مصالح حلفائها الرئيسية والعمل على فتح أطر جديدة للعلاقات في المرحلة المقبلة.