حين يتآخى بالإنسانية الدم والحبر… باول بيتر فيبلينغر النمساوي أنموذجاً!
طلال مرتضى
تركيبته الفيزيولوجية العجيبة المعجونة من نصف وداعة ونصف هدوء وسكون، بالمطلق لا تشبه طباعه، حين تقابله تشتهي أن ترمي بروحك كما هي إلى صدره ولكنك حتماً ستتحاشى النظر إلى عينيه اللتين تتجسّدان بنباهة نسر أو تهيّب ليث..
لا أدري مَن أوكل له كل هموم الإنسانية على مد كرة الأرض! مَن أعطاه حق نبش قبور المظلومين ليقاصص بها قتلتهم!
ركب العقد الثامن من العمر ولم يذهب إلى تدبير شأنه الخاص، كل يوم يخرج من صومعته الباردة على مهل، يحمل تحت إبطه ما توفّر له من الجرائد التي تدلي بالزيادة اليومية في عملية إبادة الإنسان في هذا العالم الذي لم يعُد بعيداً كما كان، نحو أي جمهرة، نحو أي منبر، نحو أي عابر سبيل في الشارع ليقصّ عليه كيف يموت الأبرياء بفعل السياسة.
هو تجرّع طعم الموت إبان الحرب العالمية، لذلك تجده يقارعه ويقارع مفتعليه بشتى أنواع الكلمات التي يؤمن بأنها أقوى ألف مرة من لهج الرصاص. الشاعر النمساوي باول بيتر فيبلينغر حارس الإنسانية المخذولة، صوت الذي كممت أصواتهم ودفنت جثثهم حين وقفوا في وجه طغاة الأرض، سألته ذات وقفة قرائية: أما مللت أيها الكهل من مناددة القتلة الأحرار؟
قال: وهل توقفوا عن القتل كي أذهب نحو سبيلي الأخير بسلام. ها أنا فقط كل يوم أقيم لهم صلاوات الاستذكار وأصمت:
«قل لي أين تتفتح الأزهار؟
من عيون الجماجم ينمو العشب.
في أوكرانيا.. في روسيا..
في ستالينغراد.. في بريتاني..
في نورماندي..
جماجم مدفونة تحت الرمال
في سورية.. الجزائر.. تونس.. سيراليون.. كمبوديا.. فيتنام..
في كل مكان جماجم..
في جميع أنحاء الأرض..
في باطنها وفي ظاهرها أو تحت الرمال..
هم في ذاكرتنا..
انطفؤوا في نسياننا.
دُفن الجميع في غياهب النسيان.. إلى الأبد..
إلى الأبد…
آمين».
فقط هو يمرّر كل إشاراته من بعيد، لم يشأ أن يعكّر صفو رقدتهم وهو المدرك أن الصلاة وحدها قادرة على إيصال كل شجواه لهذا وعلى الرغم من أن كل شيء ركب موجة النسيان وإلى الأبد، رنّ جرس الحواس قبلاً بقوله، هم في ذاكرتنا، والذاكرة لا تنطفئ ولا تموت ما دام هناك من يدوّن على غير ملل قصة «المجزرة»:
«إلى أن يحين وقت الاعتراف
ستبقى الجثث المشوّهة جنباً إلى
جنب في حوض ضحل
رجال.. نساء وأطفال
بجانب الحيوانات
الميتة.
الحكام الجدد
سوف يوثقون صوراً وأفلاماً
ذلك من أجل العدالة
هذا ما سيقولونه في وقت
لاحق.
الجثث ملفوفة بأغطية
بلاستيكية
توضع في المستودع
إلى حين التخلّص منها كالنفايات
الخطرة
لكن القتلة أحرار
لأن كل شيء حدث
في الحرب».
على الرغم من أن قصيدة المجزرة قديمة إلا أنها بنتُ ساعتها، هو يكشف من خلالها قبح وعهر الحقيقة التي دأب القتلة لمواراتها، ولكنها كانت كالزئبقي تتسلل من بين أصابعهم كدليل إدانة.
الصورة الحقيقية لتلك القصيدة عالقة في أذهاننا وأنها لا تنفك للحظة من المرور على شريط أرواحنا كسيناريو لمسرحية تراجيدية نحن أبطالها الحقيقيون.
الشاعر وكما حضور نصوصه تنحو إلى الكلاسيكية وعمق لغته هو ما جعلها رهيفة وكأنه بنت الفطرة الأولى، لغة الناس السهلة والممتنعة في الوقت ذاته. لكن في هذا نص بالذات أجد أنه بنى تقاطيع القصيدة على توقيتات الهايكو الياباني والذي يعتمد قيامته على توقيتات زمنية مبنية على أو مجتزأة من حواس الطبيعة.
كثيراً ما يتلمّس قارئ باول بيتر مدى شحنة الوجع الكامنة في مفاصل نصوصه، وهو ما يبادر إلى ذهن القارئ السؤال عن كم الوجع الإنساني والهمّ الذي يحمله الرجل الذي يتّسم بالوداعة والهدوء الكلّي.
لعلّ ما نقبض عليه من فورة ألم في نصوص باول هو التصوير الحقيقي لما يحدث في شوارعنا من قهر وموت بسبب الحروب. فهو من غير الممكن أن يذهب إلى تلوين الموت بألوان تسرّ أعين الناظرين.. فالموت كما اسمه موت، وكما الحقيقة طعمها مرّ، على الرغم من أنها حقيقة.
هو ونحن نعرف أن النسيان نعمة وهبة من خالقنا، لعلّه أعطانا إياها كي نتخفّف من أوزار الحياة الثقيلة، لكن في رأس باول بيتر صورة لم يستطع محوها بالمطلق، فهي وعلى غير موعد وكيفما ولّى وجهه يجدها في مرايا روحه منذ سنته الرابعة قبل 76 عاماً من اليوم مجسّدة في «الوداع»:
«المكان الأول الذي قفــز لذاكرتي في عامي الثامن والسبعين الذي سأكمــله قريباً كان مطبخنا في البيت. من المؤكد كان ذلك في العام 1943.
رأيت شقيقي الأكبر في زي قوات الدفاع الألمانية، بكامل عتاده، وقف يودّع جميع مَن كانوا في المطبخ، ولكني لا أذكــــر أنه ودّعني. فكل ما أذكره أنه كان صبياً بالكـــاد بلـــغ الحلم، نحيف القامة، بملامح دقيقــة.
كان فـــناناً وموسيقياً وفي الفصل الثامن في الثانوية العليـــا لم تفارقني هذه الصورة، لم تتغيّر، ليس كما الفلم الذي تتغير مشاهده سريعاً. رسّخت فقط هذه الصورة.
يقف شقيقي ماكس في المطبخ واجماً، لا أحد يتحرك، لا أسمع صوتاً، لم يتكلم أحد وكذلك لم يبكي أيٌّ منا. ما أذكره عن نفسي أني كنت طفلاً في عامه الرابع يقف على كرسي ويراقب هذا المشهد ويفعل مثلهم، أخرس وبلا صوت وبلا أحاسيس، ربما لأني لم أكن أعرف الذي يحدث وأن شقيقي الأكبر جُنّد للحرب وعليه أن يكون في جبهتها في روسيا.
لم أعرف ماذا يعني ذلك، أيّ خطورة وأيّ خوف. ماذا يعني هذا الحزن الذي جثم على صدر والديّ والقلق عليه خاصة حين لم نعرف إلا لاحقاً إن كان حياً أو ميتاً.
تبقت فقط صورة الوداع، الصورة الوحيدة التي لم تبرح ذاكرتي».
ترجمة القصائد: الدكتورة إشراقة حامد.
سيرة
بيتر باول فيبلينغر شاعر ومصوّر فني نمساوي ولد في النمسا عام 1939. درس علوم الفلسفة والمسرح وعلم اللغويات الخاصة باللغة الألمانية.
أصدر 49 كتاباً وترجمت أعماله إلى 120 لغة وقدّمت دراسات أكاديمية عن أشعاره ونثره. معروف بمواقفه المنحازة للشعوب المقهورة. نال العديد من الجوائز وتم تكريمه بوسام الدولة الذهبي.
من مؤسسي «القلم النمساوي» وعضو اللجنة التنفيذية لاتحاد الكتاب الفيناويين واتحاد كتاب غراتس. أصدر كتابين في عامه الثمانين والذي أكمله في يونيو من هذا العام. أحدهما أشبه بالسيرة الذاتية لمرحلة الطفولة.
كاتب عربي/ فيينا