ترامب بين الربح والخسارة وسورية الشعرة التي قصمت ظهره
سماهر الخطيب
شكّل تأييد الأغلبية النيابية الأميركية لإدانة قرار ترامب «سحب القوات الأميركية من شمال سورية»، تجسيداً رسمياً للمواقف الحادة للحزبين الديموقراطي والجمهوري ضدّ السياسة الخارجية «الترامبية» المثيرة للجدل ضمن الحياة السياسية الأميركية.
وصوت ثلاثُمئةٍ وأربعةٌ وخمسون نائباً بينهم عشرات الجمهوريين لصالحِ مشروعِ القرار، بينما عارضَه ستون نائباً فقط. ما أغضب الرئيس الأميركي دونالد ترامب وجعله يفض الاجتماع فور علمه بتمرير مشروع القرار، وفق ما أعلنته رئيسة مجلسِ النواب الأميركي نانسي بيلوسي، التي قالت إنّ «أكثر من ثلثي الجمهوريين صوتوا لصالح مشروع قرار التنديد بما فعله الرئيس، وأعتقد أن ذلك التصوت صدمه وأغضبه. ولهذا السبب لم نتمكن من الاستمرار في ذلك الاجتماع لأن ترامب لم يكن يعي الحقيقة».
سجالٌ حاد
فيما دافع الرئيس الأميركي مجدداً عن قراره، نافياً إعطاء نظيره التركي «ضوءاً أخضر لشنّ عملياته ضد الأكراد في سورية»، مؤكداً أن «الأكراد ليسوا ملائكة»، وذلك رداً على الاتهام الموجه له بالتخلي عن الأكراد.
وحينها قال ترامب: «الأكراد ليسوا ملائكة. الق نظر على حزب العمال الكردستاني إنه أسوأ من تنظيم الدولة. صحيح لقد حاربوا الى جنبنا ونحن دفعنا أموالاً طائلة كان الأمر جيداً. الأكراد في أمان أكثر حالياً انهم يعرفون كيف يقاتلون».
وتوجّه الرئيس الأميركي بكلام قاسٍ إلى رئيسة مجلس النواب حيث وصفها بأنها «سياسية من الدرجة الثالثة»، وذلك خلال اجتماع في البيت الأبيض عُقد لمناقشة السياسة الأميركية في سورية، وكانت ردّة فعل معظم الديمقراطيين هي الانسحاب من هذا الاجتماع الذي رأوا فيه توبيخاً وانتقاصاً لرئيستهم من قبل رئيس الجمهوريين «ترامب».. ويعتبر هذا السجال الحاد، أحدث إشارة على التدهور الكبير في العلاقة بين ترامب وبيلوسي منذ أن بدأت الأخيرة تحقيقاً الشهر الماضي بهدف عزل الرئيس.
كما أنّ هذا الاجتماع هو الأول بين ترامب وبيلوسي منذ بيانها في 24 أيلول الماضي الذي أعلن فيه البدء بإجراء تحقيق في استخدام ترامب سلطاته ضد منافس له في الانتخابات. ولم يتم التطرق إلى التحقيق خلال الاجتماع، بحسب ما أعلنته رئيسة مجلس النواب.
وليست المرّة الأولى التي يقلل فيها ترامب من شأن بيلوسي إذ قلل من شأنها مرات عدة على «تويتر» في الأسابيع التي تلت بدء التحقيق لعزل الرئيس.
وشعر الديمقراطيون بالإهانة الشديدة بسبب معاملة ترامب لبيلوسي، وفق ما أعلنه الديمقراطي في مجلس النواب ستيني هوير الذي بدا منزعجاً من شدّة السجال في البيت الأبيض، وقال «لقد حضرت الكثير والكثير من هذه الاجتماعات»، لكن «لم يسبق لي أن رأيت رئيساً يعامل جزءاً موازياً من حكومة الولايات المتحدة بهذا القدر من قلة الاحترام».
فيما قال رئيس الأقلية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، الذي كان يحضر الاجتماع إن «ترامب بدأ بتوجيه نقدٍ لاذعٍ ومبتذَل»، في حين قالت بيلوسي إن «الرئيس عانى من حالة انهيار».
بدورها، رفضت المتحدثة باسم ترامب ستيفاني غريشام الرواية الديمقراطية لما حدث، وقالت إن «كلام الرئيس كان مدروساً وحاسماً»، وإن «خروج بيلوسي كان غير مفهوم ولكنه لم يكن مفاجئاً».
أخطاء على لسان ترامب
وقبل ساعات من توجّه نائب الرئيس مايك بنس ووزير خارجيته مايك بومبيو إلى أنقرة، قال ترامب إن «الولايات المتحدة تسعى إلى تسوية الأمر مع تركيا في ما يتعلق بهجومها في شمال شرق سورية ملوحاً بعقوبات ستكون مدمرة للاقتصاد التركي إذا لم تمض المباحثات مع أنقرة بشكل جيد».
وفي هذا الصّدد، نشرت وكالة «أسوشيتد برس» تقريراً تطرقت فيه إلى الأخطاء التي جاءت على لسان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في كلمته، أول أمس، عن سحب قوات الولايات المتحدة من سورية.
وقال ترامب مدافعاً عن قرار البيت الأبيض سحب القوات من شمال شرقي سورية قبيل الاعتداء التركي على سورية: «كنا نعتقد أن تواجدنا في سورية سيستغرق شهراً واحداً وكان ذلك قبل عشر سنوات».
وبعد عام فقط، أعلن البنتاغون عن إرسال قوات خاصة إلى سورية، وذلك دون تحديد أي سقف زمني لهذه الحملة.
وبعد ذلك، حمّل ترامب في كلمته المقاتلين الأكراد المسؤولية عن الإفراج عمداً عن بعض إرهابيي «داعش» المحتجزين لديهم «بغية الإضرار بسعمة الولايات المتحدة»، لكن «أسوشيتد برس» أشارت إلى أن «هذا الادعاء لا يستند إلى أي أدلة».
ونقلت الوكالة عن مسؤولين في البنتاغون تأكيدهم أن «عدد المتطرفين الذي استطاعوا الفرار من السجون الكردية في الأيام الأخيرة يقدر بنحو 100 شخص، فيما يستمرّ المقاتلون الأكراد في حراسة مراكز احتجاز الدواعش الأسرى الذين يقدر إجمالي عددهم بنحو 12 ألف متشدد بمن فيهم 2000 أجنبي».
ثم ادعى ترامب أن معظم الجنود الأميركيين قد غادروا المنطقة، لكن الوكالة أفادت بأن الجزء الأكبر منهم نحو 1000 جندي لا يزالون إلى الآن في الأراضي السورية، ويتواجد معظمهم في نقطتين شمال البلاد، إحداهما قاعدة جوية تعرف بـ «منطقة إنزال كوباني».
وأوضحت مصادر الوكالة أن «عدداً قليلاً فقط من الجنود الأميركيين قد غادروا سورية، ومن المتوقع أن تستغرق عملية الانسحاب أسابيع».
ربح أو خسارة: من عالم الأعمال إلى عالم السياسة
في هذه الأثناء نجد أنّه ومنذ انطلاق حملة ترامب لانتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016، بدا واضحاً أنه قرّر تبـــني نظرية تقـــوم على «الربح الكلي أو الخسارة الكلية». وهـــي نظريــة يطبقها رجـــال الأعمـــال فـــي عالمهم وترامب يبرع في هذا العالم كـ«تـــاجر»، ناقلاً المجــــتمع الدولي بنظـــريته إلى مجتمع شركاتي استثماري يغامر ويقـــامر بين هنا وهـــناك تحصـــيلاً للربح ومهيئاً للخسارة إذ لا حل وسط في عالم التجارة، إما الربح أو الخسارة..
وتطبيق ترامب لهذه النظرية ظهر واضحاً خلال إدارته منذ تسلمه دفة الحكم فحوّل البيت الأبيض إلى شركة عقارية يسمسر في أروقتها بين العقارات متجاوزاً قوانين تحكم هذا البيت وأخرى تحكم الدول باعتبارها دولاً ذات سيادة وليست كاعتقاده عقارات استثمارية لتتجلى نظريته في الكثير من القضايا والملفات الدولية. بدءاً من الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي كان قد أبرمها أسلافه ضمن سياسة لا تختلف عن سياسته في المضمون الذي يرجح الكفة للمصلحة الأميركية إنما الخلاف من حيث الشكل والأدوات المعتمدة لتنفيذ هذه السياسة..
وبالتطرق إلى تلك الملفات التي لا تحصى وانسحب ترامب من معظمها كمعاهدة الصواريخ المتوسطة مع روسيا ومعاهدة ستارت1 و2 واتفاق باريس للمناخ وغيرها الكثير..
ولدينا الاتفاق النووي مع إيران خير برهان على سوء تصرف ترامب في هذا الملف متناسياً المصلحة الأميركية التي لطالما نادى بها مقحماً عبقريته التجارية التي سمحت له اعتبار الاتفاق النووي الإيراني اتفاقاً سيئاً وتنصل منه بشكل غير قانوني، وبطريقة أضرّت بحلفائه قبل أعدائه موصلاً عبر انسحابه رسالة قلل فيها من احترام الاتفاقات الجماعية وبالتالي قلل من احترام من شارك في إبرامها.
إضافة إلى فرضه إجراءات حظر على إيران بحجة الاتفاق النووي. والدافع والمحرّك لهذه السياسة كان الأمل بربح كل شيء في الملف الإيراني.
إذاً في الملف الإيراني لم يربح ترامب ما كان يريده من التنصل من الاتفاق النووي، والأهم أنه لم يحقق أهداف إجراءات الحظر التي فرضها على طهران، فلا الإيرانيين خضعوا لضغوطه بالذهاب إلى طاولة المفاوضات بشروط واشنطن، ولا الضغط الاقتصادي جعل إيران مرتهنة للسياسات الأميركية، بل أصبحت نظريته معكوسة إذ أصبح ترامب هو مَن يرسل الوساطات لإقناع الإيرانيين بالجلوس معه.
ولسنا ببعيدين عن مساعي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الأمم المتحدة لإجراء اتصال بين ترامب وروحاني وأن الأخير هو مَن رفض الحديث مع ترامب.
كذلك، إعلانه الحرب التجارية ضدّ الصين، وفرض رسوم جمركية على بضائعها في محاولة منه لإجبار الصين على تقديم تنازلات اقتصادية والجلوس على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة، وبالتالي توجيه ضربة قوية للاقتصاد الصيني، بعد امتلاك الصين ورقة قوية تتمثل بالديون الضخمة لصالحها عند واشنطن.
والدافع مجدداً في هذه الحرب كان الربح الكلي وجعل الولايات المتحدة المتحكم الأوحد بالاقتصاد العالمي. إنما نيران الحرب التجارية التي أعلنها ترامب بدأت ترتدّ عليه، مع تزايد التوقعات بحدوث ركود اقتصادي في الولايات المتحدة، ناهيك عن أن الأرقام التي يعلنها ترامب على حسابه في «تويتر» حول البطالة والنمو الاقتصادي لبلاده تفتقر للدقة، بدليل خلافاته الواضحة مع البنك المركزي الأميركي..
أما ملف المنطقة، فإذا ما أخذنا كمثال الملف السوري، نجد أن ترامب حاول الظهور بمظهر «البطل» الذي قضى على التنظيمات الإرهابية في سورية، رغم أن تحالفه لم يساهم في هزيمة الإرهاب بل على العكس دعمه وأنقذه في مناطق عدة.
ومع انطلاق العملية العسكرية التركية في شمال سورية مؤخراً، أعلن ترامب سحب قواته من هناك بحجة أن المعركة ليست معركته.
وهنا مرة أخرى هدف للربح من خلال اقناع الشارع الأميركي أنه لا يريد الحروب. لكنه في المقابل لم يجني شيئاً، وكشف الغطاء عن زيف التصريحات الأميركية بمحاربة الإرهاب وأظهر حقيقتها المصلحية أمام المجتمع الدولي ككل..
ويكفي القول إن سبب سحب ترامب قواته من سورية لم يكن الربح من هذا الملف، بل لأنه لم يجد غير هذه الورقة للفت النظر، وتخفيف الضغط الذي يتعرض له داخلياً على خلفية التحقيقات في الكونغرس المتعلقة بعزله. والتي تكشف بدورها فشلاً آخر على المستوى الداخلي بعد الحرب التي شنها منذ اللحظة الأولى ضد الديمقراطيين في محاولة لإنهائهم سياسياً في الضربة القاضية وربح كل شيء أيضاً.
فيما تفيد المؤشرات الميدانية بالجغرافيا كما بالسياسة بأن أميركا بدأت تفقد سيطرتها على النظام الدولي شيئاً فشيئاً والبداية من سوريانا التي قصمت ظهر الولايات المتحدة..
فالمشهد الذي نراه الآن، في شمال شرق سورية، والتحرك الأميركي للوساطة مع أردوغان لم يكن نتيجة لنزعة أردوغان التوسعية وعدوانه على سورية ولعبه على الحبال الروسية الأميركية، إنما كانت إحدى دلائل الهزيمة التي تلقاها الأميركي ومحوره الصهيوني في «المستنقع» الذي صنعه في سورية، والذي يعتبر أردوغان أداة من أدواته لا أكثر..
انسحاب يعكس هزيمة استراتيجية
كما أنّ الانسحاب الأميركي من سورية لم يكن سوى نتيجة لانعكاس هزيمة مشروعها الاستراتيجي، لتندرج تحت بند توجهات ترامب تخفيف الضغط الداخلي ضدّه وكسب تأييد جديد عبر خفض الانفاق العسكري، على الصعيد العالمي، وترجم هذا التوجه في منطقة الشرق الأوسط ككل في الآونة الأخيرة. ما يعني بأن الانسحاب من سورية هو خطوة أولى لاستكماله من كافة القواعد الأميركية في المنطقة..
وليس مستبعداً أن تكون اللوبيات الصهيونية هي من حرّك غضب الداخل الأميركي، كون الرئيس الأميركي لم يقدم أيّ ضمانات جديدة لـ»إسرائيل» عقب التطورات الميدانية المتسارعة في الشمال السوري، والتي تعتبر ذات بعد استراتيجي دولي، تؤذن ببدء عصر جديد، غير العصر الأميركي، يقوم على قاعدة العالم متعدد الأقطاب.
وربما على الرئيس الأميركي الاقتناع بأنه بات في موقع «الخسارة» وفق قاعدته العقارية، وبالتالي عليه أن يقوم بحفظ ماء الوجه والمغادرة من تلقاء نفسه قبل انتهاء عملية العزل بغض النظر عن نتيجتها..
«فتأمل رعاك الله..»