«يوتوبيا» متسامية نظريّاً لا تنزل إلى أرض الواقع 10
جورج كعدي
في «أفكار» اليوم إتمام لـ«يوتوبيا» إتش. جي. ويلز التي احتاج عرضها إلى أجزاء ثلاثة، وثالثها هنا هو الأخير.
حلّت «أكثر المناهج التعليميّة رهافة» مكان مناهج التنظيم الفجّة في «يوتوبيا حديثة»، فليس ثمّة عقاب للأفراد السيّئين في «يوتوبيا»، إذ لن يعثروا على مَنْ يحبّهم فـ«لا أحد في يوتوبيا يحبّ الذين لا يملكون الطاقة أو التميّز»، ولا تُرغم النساء على الحَمْل، ولا يحملن إلاّ بعد تدبّر واستعداد. وليس في «يوتوبيا» أيّ قيود و«يُنظر إلى الحبّ الجسديّ على أنّه أمر طبيعيّ وجميل ويتكلّم عنه الأطفال من دون أيّ إحساس بالوعي ـ الذاتيّ». كما حلّ التعليم مكان الحكومة في «يوتوبيا»، فليس فيها برلمان، ولا سياسة، ولا ثروات خاصّة، ولا منافسة في المصالح والأعمال، ولا شرطة ولا سجون، ولا مجانين أو ضعاف عقول أو معوّقون، والواقع أنّها خالية من ذلك كلّه لأنّ فيها مدارس ومعلّمين مثلما ينبغي أن تكون المدارس والمعلّمون.
السياسة والتجارة والمنافسة هي بالنسبة إلى ويلز وسائل توافق أو تكيّف في مجتمع مطبوع على الفجاجة والفظاظة. نحّيت وسائل كهذه جانباً في «يوتوبيا» لمدّة تزيد على ألف سنة. لا يحتاج «اليوتوبيّون» الراشدون إلى حكم ولا إلى حكومة، فكل ما يحتاجون إليه من الحكم والحكومة حصلوا عليه من مرحلة الطفولة والشباب. وينشأ الأطفال في منتجعات واسعة ويُحمون من الخوف والأفكار الشرّيرة والصدمات التي تهزّ خيالهم، ويُعوّدون على النظافة، والصدق، ومساعدة المحتاجين، والثقة في العالم، والإحساس بالانتماء إلى الهدف العظيم للجنس البشريّ. وبعد سنّ التاسعة أو العاشرة يخرج الأطفال إلى العالم كان تعليمهم يتمّ على أيدي الممرّضات والمعلّمين ويشارك الآباء بدور أكبر في تربيتهم. ورغم أنّ الآباء ليست لهم عمليّاً سلطة على أولادهم وبناتهم، فإنّهم يقفون بحكم الطبيعة في صفّ أطفالهم ويصبحون أصدقاء لهم.
يتلقّن كل شاب «يوتوبيّ» مبادئ الحريّة الخمسة: المبدأ الأوّل هو مبدأ الخصوصيّة فـ«جميع الحقائق الشخصيّة عن الأفراد هي سرّ بين المواطن والمنظّمة العامّة التي يأتمنها عليها، ولا تُستخدم إلاّ لمصلحته وبعد موافقته. ومثل هذه الحقائق تقدّم للغايات الإحصائية، ولا يجوز المساس بها كحقائق شخصية وفرديّة». والمبدأ الثاني هو مبدأ حريّة الحركة فـ«المواطن الذي يحقّ له أن يُعفى من التزاماته العامّة يمكنه الذهاب إلى أيّ جزء من أجزاء الكوكب اليوتوبيّ من دون تصريح أو تفسير، وجميع وسائل النقل تحت تصرّفه مجاناً. وفي وسع كل يوتوبيّ أن يغيّر البيئة المحيطة به والمناخ والجوّ الاجتماعيّ كما يشاء». والمبدأ الثالث هو مبدأ المعرفة غير المحدودة فـ«كلّ ما هو معروف في يوتوبيا ـ باستثناء الحقائق الفرديّة والشخصيّة عن الأحياء ـ مسجّل ومتاح بواسطة مجموعة كاملة من الأدلّة، والمكتبات والمتاحف، ومكاتب الاستعلام». والمبدأ الرابع أنّ الكذب هو أبشع الجرائم. والمبدأ الخامس هو حريّة المناقشة والنقد.
رغم أنّ ويلز يضحّي بالكثير من مفاهيمه «البورجوازيّة» في مؤلّفه «بشر مثل الآلهة»، إلاّ أنّه لا يتبنّى أيّ نظام شيوعيّ، فالنقود في شكل عملات معدنيّة أو ورقيّة لم تعد تستعمل، إذ تتمّ جميع المعاملات عن طريق المصارف. ويتسلّم كلّ طفل لدى ولادته مبلغاً مقتطعاً من المال العام يكفي للإنفاق على تعليمه ومعيشته حتى سنّ الخامسة والعشرين، لكنّه يختار بعد ذلك وظيفة معيّنة، ويضيف مجدّداً إلى رصيده. أمّا المجتهدون والمبدعون فغالباً ما يتلقّون منحاً كبيرة لتنفيذ أعمالهم، ويجمع الفنّانون أحياناً ثروة كبيرة إذا ازداد الطلب على أعمالهم. والظاهر أنّ الاحتفاظ بالأجور يلعب دوراً صغيراً في يوتوبيا، وهذا عائد على الأرجح إلى عدم استعداد ويلز للتسليم برأي الشيوعيّين أمثال وليم موريس.
يعتبر «بشر مثل الآلهة» آخر «يوتوبيا» في التراث الكلاسيكيّ، وقد يتساءل المرء ما إذا كان ويلز هو آخر الكتّاب «اليوتوبيّين». إنّما يمكن القول، من ناحية أخرى، إنّ الاهتمام بالأدب «اليوتوبيّ» ما برح في الواقع بعيداً تماماً عن الاختفاء، إذ خصّص لويس ممفورد دراسة شاملة عن «قصة اليوتوبيّات» جمع فيها بين التحليل النقديّ واقتراحات مهمّة من جانبه… يتبع .