سألت طالباً إيرانيّاً عن معنى كلمة «إنتليجنس» فأجابني: «إنها استخباراتكم الشرّيرة»!
اعتدال صادق
يعتبر روبرت ناي، النائب السابق في مجلس الشيوخ الأميركي، من أكثر السياسيين السابقين إثارة للجدال في الولايات المتحدة، ولا بد لمن في ذهنه صورة لم تكتمل بعد عن تلك البلاد أن يقرأ كتابه الذي ترجم حديثاً إلى العربية ونشرته «دار المشرق للطباعة والنشر والتوزيع» في قبرص.
عنوان الكتاب «اللكمة الجانبية» وفيه صورة مغايرة عن القوة العظمى الأولى في العالم حافلة بالمعلومات المثيرة وتبدد حلم بلاد كانت ولا تزال مقصد المهاجرين من كل حدب وصوب. ما يكسب الكتاب أهمية أن الصورة يقدمها رجل خبر شؤون بلاده وتواصل مع عدد كبير من الشخصيات السياسية وغير السياسية في الولايات المتحدة، من قمة الهرم إلى أدناه، ودخل معترك السياسة في السادسة والعشرين من عمره وبقي فيه لثلاثين عاماً، إلى أن أنهاه بتقديم استقالته من كونغرس ولاية أوهايو، بسبب فضيحة مالية دخل على أثرها السجن.
في الكتاب اعترافات سياسي انحرف إلى المال وشرب الكحول وأدمنه، وخُذل ممن وثق بهم، بحسب تعبيره. يعطينا وصفه للمرحلة التي أمضاها في السجن، صورة دقيقة عن السجون الفيدرالية الأميركية وعن واقع رديء.
يعرض الكتاب حوادث متسلسلة من حياة ناي في فصول، وكل فصل يعالج فترة زمنية أو حادثاُ زمنياً. ولد بوب ناي في ولاية «وست فيرجينيا» ونشأ في أوهايو. بعد نيله شهادة البكالوريوس من جامعة الولاية عمل في التدريس، وسافر إلى إيران لتدريس اللغة الإنكليزية، وهناك عرف قيمة الحب واكتشف الشغف بالسفر والوقوف على ثقافات الآخرين كما يقول. كان في السادسة والعشرين عندما انتخب نائباً في مجلس أوهايو ثم سيناتوراً، ثم ممثلاً لبلاده من المقاطعة الثامنة عشرة في الولاية. وكان عمل قبل ذلك، زمن الدراسة الجامعية في دائرة الحسابات في أحد المخازن، ثم في دائرة مواصلات الولاية، غير أن حبه للسفر واكتشاف المجهول كانا على الدوام شغفه الأول، وكانت إيران محطته الأولى خارج الولايات المتحدة.
عام 1978 بدأت جميع المحطات الأميركية تذيع عبارة «أرياميه شاهنشاه» الإيرانية وتعني ملك الملوك نور النور، شاه إيران. السبب أن الرئيس جيمي كارتر وزوجته روزالين كانا يمضيان ليلة رأس السنة في طهران، أي الليلة الأخيرة من 1977. وبعد يومين، أي في الثاني من كانون الثاني غادر بوب ناي نيويورك في طريقه إلى إيران، وكان في الرابعة والعشرين من عمره، فيما كان والداه مرتابين ومتهيبين من تلك الرحلة فرافقاه إلى مطار نيويورك لوداعه.
في الكتاب فصول ممتعة، منها ما يتعلق برحلة ناي إلى لندن ولقائه رجل الأعمال السوري اللبناني فؤاد الزيات الذي أضحى من أقرب أصدقائه. ولعل أجمل أجزاء الكتاب الفصل الخاص بإيران ويتحدث فيه عن لقائه بعض الطلاب الإيرانيين في جامعة ولاية أوهايو وتعلمه اللغة الفارسية، ثم سفره إلى إيران في الرابعة والعشرين من عمره للعمل مترجماً ومعلماً للغة الإنكليزية في شيراز.
يروى حول ذلك: «في أحد الأيام التقيت فاهيد غوبديان، وهو مهندس معماري وأستاذ مشهور، في مصعد مبنى «هاريسون هاوس» في جامعة ولاية أوهايو. كانت معه فتاة لطيفة. طرحت عليهما السلام، بالرغم من أنني لم أكن أعرف عنهما شيئاً، ثم التقيتهما بعد ذلك في فترات متباعدة. وفي أحد أيام الصيف كنت في المصعد ومعي فرشاة كهربائية لتنظيف السجاد، كنت في ذلك الوقت أنظف السجاد وأدهن الغرف مقابل أجر يمكنني من دفع إيجار غرفتي ، فالتقيت فاهيد. سألني عن الطريقة التي تعمل فيها الفرشاة، إذ كان يهتم بالهندسة، وفضولياً يحب معرفة المزيد في الشؤون التقنية. ما أن أطلعته على معلوماتي المحدودة حول هذه الماكينة، حتى أخبرني أنه وشقيقته سيكونان في الغرفة رقم 709، ثم دعاني لتناول الغداء معهما في ذلك اليوم. في تلك الأيام كنت أظن العرب والفرس واللبنانيين شعباً واحداً، جميعهم يصدرون صوتاً حنجرياً مماثلاً عندما يتكلمون. هذا كل ما كنت أعرفه عن الإيرانيين، لكن سرعان ما تعلمت أكثر مما تصورت، وأصبح ذلك جزءاً متمماُ في حياتي. كان أحد أسبب ارتياحي للإيرانيين وجود عدد كبير من اللبنانيين في غرب فيرجينيا، علماً بأنني كنت قبل ذلك قد أكلت لحم الخروف، وأطباق الكبة اللبنانية والخبز اللبناني مع صديقي مارك بوزولد. كانت والدة مارك لبنانية واسمها فيرجينيا، وكانت أمها لبنانية من بيروت وتتكلم العربية.
الطعام الإيراني الذي قدمه لي فاهيد والتشابه الإجتماعي مع اللبنانيين والمظهر العام، أمور جعلتني أشعر بالراحة. وعندما انتقلت إلى شقة أخرى، شاركت فاهيد والعديد من أصدقائه الإيرانيين السكن. في ذلك الوقت كان الآلاف من الطلبة الإيرانيين قد تسجلوا في جامعات عديدة في الولايات المتحدة، بما فيها ولاية أوهايو، شكلوا تجمعاً قوياً ضد الشاه. أخبرني فاهيد أن شقيق صديق له يريد أن يأتي إلى الولايات المتحدة. أتى التلميذ وكان في الرابعة عشرة من عمره وسكن مع شقيقتي، وبين علاقتي بهذا التلميذ، وزميلي في غرفتي تعلمت اللغة الفارسية.
في سنة 1976 دعيت للعشاء في البيت الأبيض بصفتي مندوباً عن ولاية أوهايو إلى المؤتمر الوطني الجمهوري، وكان شاه إيران ومرافقوه يغادرون المكان بينما كنت أنا داخلاً. رأيت الشاه بعينيه الثاقبتي النظر وقوامه الرفيع، وعند عودتي من واشنطن دي سي، اكتشفت بسرعة أن زملائي الإيرانيين لم يكونوا من محبي الشاه. كنت يومها أعمل في مديرية تسجيل السيارات، وحاولت أن أجد عملاً كمدرس لمادة التاريخ، لكن معلمي هذه المادة كانوا كثيرين في ذلك الوقت. عبرت عن إحباطي لفاهيد فقال لي بهدوء تام: أنت تتكلم الفارسية وعلاقتك جدية مع الإيرانيين. إذهب إلى إيران وهناك يمكنك العمل بسهولة كمدرس. بعت الأشياء التي كنت أملكها سيارة مستعملة وبعض الأثاث واشتريت تذكرة سفرذهاب فقط، وحملت معي 400 دولار. كانت إيران تناديني لأعيش إحدى أكبر المغامرات في حياتي… لم أخبر والدي بالحقيقة، أخبرتهما بأنني أحمل من المال ما يكفي لأشتري بطاقة العودة، وأن لدي وظيفة ومكاناً مؤمّناً أسكن فيه. وجود مكان كان حقيقياً إلى حد ما، لكني لم أكن متأكداً كيف سيكون هذا المكان. وكان صديقي مسعود هامونافارد» قد أخبرني أن عائلته ترحب بي للعيش معها. في تلك الأيام كان الإيرانيون ولحد ما حتى هذه الأيام يحبون الأميركيين، وكانت استضافة أميركي في منازلهم، تعتبر أمراً مميزاً ويتيح لأولادهم تعلم اللغة الإنكليزية.
انتقلت للعيش مع عائلة «هامونافارد» وبدأت رحلتي لاكتشاف إيران. كانت العائلة تعيش في شيراز الرائعة، وهي مدينة جميلة تعرف بمدينة الأزهار، وكانت فيها ساعة مصنوعة من الزهور. وشيراز هي المكان الذي يضم رفات الشاعرين الفارسيين المشهورين حافظ وسعادة خان. وعلى بعد عشرين دقيقة من شيراز يوجد «بيرسيبوليس»، أو «تخت جمشيد»، كما يسميه الفرس، مكان مكتبة الملك داريوس الكبير التي نهبها الإسكندر العظيم.
حصلت على وظيفة مترجم لمجموعة من البريطانيين الذي يرتادون حانة ليلية تقع في شارع صغير متفرع من شارع عام يدعى «جاستروداشت». أخذتهم إلى البازار وكنت مترجماً بينهم وبين القيمين على البازار، الذين كانوا ولا يزالون يديرون اقتصاد إيران. كانت هذه مراكز مباني حجرية تعود إلى 700 سنة وتحيط بالمدينة كزنار يشبه الأنبوب أو النفق، وهي مليئة بمتاجر تبيع العطور والسجاد والأدوات المنزلية، والمواد الغذائية وكل ما يطلبه المرء.
بعد أن تركت وظيفتي مع البريطانيين اشتغلت معلماً في الجمعية الإيرانية – الأميركية في شيراز، وكانت السيدة بربارة حكمت، المتزوجة من ضابط إيراني، المديرة الرئيسة لهذه الجمعية. وكان للجمعية أربعة مراكز تعليم، في كل من طهران ومشهد وشيراز وأصفهان. كانت الجمعية مركزاً ثقافياً يشجع الصداقة بين الإيرانيين والإميركيين، ومكاناً محبوباً جداً، وكانت تدور في مراكزها دورات لتعليم الإنكليزية وكنت أنا أحد المدرسين.
ذات يوم سألت تلاميذي في قاعة الدرس إذا كانوا يعرفون معنى كلمة «إنتليجنس» أي ذكاء، فأجاب أحد الطلاب إنها رجال إستخباراتكم الشريرة! في اليوم السابق كنا كمعملين تلقينا تعليمات إنه إذا اتفق وصادفنا في الصف إعتقادات أو تعليقات غير مستحبة، فعلينا أن نتجنب حدوث أي مشكل، ونوقف الصف بسرعة. نفذت الأوامر وصرفت الصف ذلك اليوم، وعندما بدأت الفوضى والتظاهرات في البلاد تتصاعد، شعرت أن وقت الرحيل قد حان، وأنه لا بد من العودة إلى أميركا»!
يزور السيناتور روبرت ناي لبنان ليوقّع في معرض بيروت للكتاب كتابه في العاشر من الجاري، الساعة السادسة في جناح دار «النهار» للنشر .