الأزمة الاقتصادية في لبنان لم تحدث بين عشية وضحاها.. إذن كيف وصل الأمر إلى هذه النقطة؟

هانز بومان

واصل مئات الآلاف من اللبنانيين الاحتجاج بعد أن اقترح رئيس الوزراء سعد الحريري قائمة بالإصلاحات يوم الاثنين. تستمرّ الاحتجاجات في جميع أنحاء لبنان منذ يوم الخميس الماضي بسبب الأزمة الاجتماعية والاقتصادية العميقة في البلاد، والتي لها جذور في القرارات التي اتخذت بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1990.

أدّت هذه الخيارات الاقتصادية والسياسية إلى وضع يتعذر الدفاع عنه على نحو متزايد، فيما لا تمتلك الطبقة السياسية في البلاد إلا أجوبة قليلة. لقد غذت فوائد الاقتراض الحكومي غير المستدام فئة ضيقة من النخب دون معالجة الفقر المتزايد، في حين أنّ النظام الضريبي زاد من عدم المساواة.

لقد فشلت الحكومة في معالجة قضايا كثيرة ومتشعّبة مثل الفساد الواسع النطاق وحرائق الغابات الأخيرة وأزمة العملة التي تلوح في الأفق. ويعبّر المحتجون عن أنهم لم يعودوا مستعدين للوقوف إلى جانبهم. إليكم كيف حدث ذلك.

السياسات المالية للبنان تنتج ديوناً كبيرة وانعدام المساواة

البلد يعتمد على الواردات. ومن شأن تخفيض قيمة العملة رفع أسعار السلع المستوردة وتآكل مستويات المعيشة. منذ عام 1997، طمأن ربط العملات بالدولار المستثمرين الأجانب باستقرار البلاد. إنّ قرار البنوك اللبنانية هذا الشهر بتوزيع الحصص على الدولار الأميركي يثير قلق اللبنانيين.

أساسيات البنية الاقتصادية اللبنانية هي من بين الأسوأ في العالم. فلبنان كدولة يعتبر واحدة من أكثر الدول المدينة، حيث تقدّر ديونها الحكومية بنحو 155 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وهي تستورد البلاد سلعاً وخدمات أكبر بكثير مما تصدّره، ومن المقرّر أن يصل عجز الموازنة الحكومية إلى 10٪ من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام.

لقد أدّى الاقتراض الحكومي المفرط إلى تضخيم القطاع المصرفي ذي الارتباط السياسي الجيد الذي يقرض الدولة بأسعار فائدة مرتفعة. حيث تفضل البنوك الإقراض للحكومة بدلاً من تمويل المشاريع الإقتصادية والإستثمارية، مما يضعف استثمارات القطاع الخاص.

تعتمد البنوك على اللبنانيين الأثرياء وخاصة المغتربين لإيداع أموالهم في بيروت. تتدفق أسعار الفائدة الهائلة التي يكسبها هؤلاء المودعون إلى جيوب قليلة للغاية: يقدّر أنّ حوالي 1 في المائة من جميع الحسابات تحتوي على ما يقرب من نصف إجمالي الودائع.

وفقاً لبحثي حول الأزمة الاقتصادية الحالية، فإنّ اقتصاد الريع غير المنتج في لبنان يدور حول القطاعين المصرفي والعقاري، مما يؤدّي إلى تفاوت كبير في الدخل. وقد وجدت دراسة حديثة أنّ أعلى 10 في المائة من أصحاب الدخل اللبناني حصلوا على 57 في المائة من إجمالي الدخل المكتسب في عام 2014، في حين تمثل نسبة الـ 50 في المائة الأدنى 11 في المائة.

إنّ العبء على المؤسسات المالية خفيف، في حين أنّ الضرائب غير المباشرة التي يدفعها الجميع، مثل ضريبة القيمة المضافة VAT ، تزداد. وقد أصبحت ضريبة WhatsApp الأخيرة – التي أشعلت اندلاع الاحتجاجات يوم الخميس الماضي – رمزاً للاقتصاد السياسي المنحرف في البلاد. وفي حين أنّ الأثرياء والمتصلين سياسياً يكسبون أرباحاً مصرفية ناجمة عن الدولة، فإنّ الدولة تستنزف الموارد اللازمة لمعالجة الأزمات الاجتماعية والبيئية.

المزيد من الديون يعني قدرة أقلّ

على تقديم الخدمات العامة وسط أزمة بيئية متزايدة

إن خدمة الديون المفرطة للبلاد لا تترك مجالاً للإنفاق الحكومي على المشكلات الاجتماعية المشتعلة. إنّ التوظيف والإنفاق الحكوميين على أسس طائفية يغذيان الافتقار المنهجي للشفافية والمحسوبية في التعيينات السياسية.

يفرض نظام الكهرباء المختلّ وظيفياً على الأسر دفع رسوم باهظة للوصول إلى المولدات الكهربائية الخاصة. تعتمد الأسر على المياه المعبّأة في زجاجات لأنّ نوعية مياه الصنبور رديئة. يمكن لسكان المشاريع العقارية الفاخرة عزل أنفسهم عن فشل الدولة، ولكن حتى الطبقة الوسطى تكافح من أجل مواكبة ذلك.

يمثل اللاجئون السوريون الذين يقدّر عددهم بنحو 1.5 مليون لاجئ عبئاً إضافياً، لكن أسباب إخفاقات القطاع العام تعود إلى أبعد من بداية الحرب السورية في عام 2011. وهذا لم يمنع السياسيين من استخدام اللاجئين كبش فداء سهل لفشلهم.

ضعف أداء الدولة يعرّض مواطنيها للخطر. فشل جمع القمامة في بيروت عام 2015 ما فجر مظاهرات لا تختلف عن المظاهرات الحالية. لم يجد السياسيون أيّ حلّ مستدام للأزمة بخلاف إلقاء النفايات عبر جبال البلاد وشاطئها. وقد أدّى ذلك بدوره إلى تلوّث شديد للمياه وتجدّد الاحتجاجات المحلية.

تفاقمت الأزمة البيئية الأسبوع الماضي عندما دمّرت حرائق الغابات جبال لبنان. معدات مكافحة الحرائق الحاسمة لم تكن متوفرة بسبب نقص الصيانة. كان الجو المروع لحرائق الغابات وأزمة العملات التي تلوح في الأفق بمثابة خلفية الاحتجاجات. اقتراح ضريبة WhatsApp ثم تعيينها كان كفيلا بتفجير الشارع.

كيف نجا الاقتصاد اللبناني لفترة طويلة؟

تكمن الإجابة في الكوكبة الإقليمية للهجرة والجغرافيا السياسية. يعتمد لبنان اعتماداً كبيراً على التحويلات من مجتمع المهاجرين الكبير، ليس أقلها توفير الودائع التي تقرضها المصارف اللبنانية للحكومة. لكن الركود أصاب هذه التدفقات في السنوات الأخيرة. لقد أدّى انخفاض أسعار النفط إلى انخفاض التحويلات من اللبنانيين في الخليج، في حين أنّ الحرب السورية جعلت لبنان وجهة استثمارية أقلّ جاذبية. وكذلك التهديد بفرض عقوبات أميركية على البنوك التي تتعامل مع الأموال للحركة الشيعية اللبنانية حزب الله أضعف الثقة.

خلال المرات السابقة من الأزمة، فإنّ الحكومات الخليجية الصديقة قرّرت المساهمة في استعادة ثقة المستثمرين في قدرة البنك المركزي على الدفاع عن العملة من خلال التحويلات النقدية الطارئة التي حظيت بتغطية إعلامية. لكن هذا الدعم بدا غير مؤكد هذه المرة لأسباب سياسية. برز ذلك بقوة عندما حاول ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الضغط على حليفه المحلي، الحريري، لمواجهة النفوذ الإيراني في لبنان. وفي الوقت نفسه، تعثرت أعمال البناء السعودية للحريري.

وكان البنك المركزي خلال ذلك يخفي وجود أزمة ويفضل العمل تحت الطاولة عبر اللجوء إلى الألعاب البهلوانية المالية المعقدة للحفاظ على ائتلاف الفائدة بين البنوك، حتى بات الأمر غير قابل للإخفاء وظهرت ملامح العجز في حسابات الخزينة اللبنانية المخصصة لسداد متوجباتها الداخلية.هكذا نفهم ذهاب الحكومة اللبنانية لمناشدة الدول الغربية والمؤسسات المالية في مؤتمر المانحين لعام 2018، حيث تعهّدت الحكومة اللبنانية بإجراء إصلاحات اقتصادية مقابل الحصول على أموال لكنها لم تقدم.

استجابة السياسيين غير كافية

السياسة في لبنان لها بعد واحد هو استخدام الطائفية لسيطرة الزعماء على دوائرهم الانتخابية الطائفية وتقويض الجهود الرامية إلى أيّ تعبئة سياسية إصلاحية يمكن أن تهدّد الوضع الراهن.

والآن، بعد مواجهة الاحتجاجات الجماهيرية غير الطائفية، فشل النص المألوف للسياسيين المتمثل في الإكراه للشارع والتضامن في ما بينهم بإيجاد الحلّ التقليدي. في ليلة الجمعة، طلب الحريري فترة سماح مدتها 72 ساعة قبل أن تقوم قوات الأمن بتطهير وسط بيروت باستخدام الغاز المسيّل للدموع والاعتقالات الجماعية. لكن في اليوم التالي، عاد المحتجون.

كان بعض الزعماء يدعون أتباعهم للانضمام إلى الاحتجاجات بينما أرسل آخرون مسلحين. استقال بعض الوزراء وربما تسقط الحكومة. حذر زعيم حزب الله حسن نصر الله – السياسي الأكثر نفوذاً في لبنان – من مخاطر الانهيار غير المنضبط للبلاد، مما حث في الواقع على إعتماد الصبر.

في الإصلاح المقترح يوم الاثنين، سعت الحكومة إلى إرضاء المتظاهرين من خلال تدابير مثل فرض ضريبة لمرة واحدة على البنوك، وخفض رواتب المسؤولين، ووعد بمعالجة الفساد. كما شملت المقترحات النيوليبرالية القديمة، مثل خصخصة شبكة الهاتف المحمول. بالنسبة للمحتجين الذين واجهوا قوات الأمن والميليشيات للمطالبة بتغيير حقيقي، قد تكون هذه الردود قليلة للغاية ومتأخرة للغاية.

واشنطن بوست ـ 22-10-2019

هانز بومان محاضر في قسم السياسة بجامعة ليفربول، ومؤلف كتاب «المواطن الحريري: إعادة إعمار الليبرالية الجديدة في لبنان».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى