خلاص لبنان بالدولة المدنية لا بأجندات تأبيد النظام الطائفي…!
معن حمية
صرخة الناس رفضاً للضرائب والفساد ولكلّ الواقع المعيشي ـ الاقتصادي المتفاقم في لبنان، هي صرخة الفقراء وذوي الدخل المحدود والعاطلين عن العمل وصرخة كلّ فرد ضاقت به سبل العمل والعيش، وهؤلاء هم من كلّ الأحزاب والشرائح، وقد جمعتهم المطالب المحقة. وهذه المطالب هي التي منحت التظاهرات مشروعية كاملة وأعطتها زخماً كبيراً، ما أجبر الحكومة على إقرار ورقة إصلاحية تلبّي بعضاً من مطالب الناس، التي سرعان ما تحوّلت إلى حبر على ورق، بعد استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري والدخول في تصريف الأعمال.
ما حققه المتظاهرون في الأيام الأولى للتظاهرات، شكل بارقة أمل للبنانيين بتحقيق كافة مطالبهم، وبإمكانية قيام دولة العدالة الاجتماعية، ولكن، ثمة جهات وغرفاً سوداء تعمل في الخفاء، قوّضت بارقة الأمل حين استغلت وجع الناس، وسيّست التظاهرات بشعارات تستبطن أهدافاً سياسية لا تصبّ في مصلحة لبنان واللبنانيين.
الحقيقة التي لا يمكن تحريفها أو طمسها، أنّ السواد الأعظم من الذين خرجوا إلى الشارع، هم الناس الفقراء وقد خرجوا للمطالبة بأبسط حقوقهم والعيش بكرامة، ورفضاً للفساد المستشري الذي يعشش في بنية بلد يحكمه نظام طائفي مقيت.
الحقيقة الثابتة والكاملة، أنّ خلاص لبنان بدولة مدنية لا طائفية يتساوى فيها الأفراد في الحقوق والواجبات، دولة مدنية لها قضية جامعة تدافع عنها، ولها هوية وانتماء تصونهما، لا كما تقدّمها بعض المجموعات التي تحمل صفة المدنية ، على أنها مجرد ترف متعدّد الأوجه والأهداف والارتباطات ومتجرّدة من الانتماء والهوية.
أن ترفع الناس مطلب قيام الدولة المدنية، وأن يؤكد المسؤولون وفي مقدّمهم رئيسا الجمهورية والمجلس النيابي على المطلب عينه، معنى ذلك أنّ الدولة المدنية باتت خياراً إنقاذياً للبنان، وأنّ تحويل المطلب إلى حقيقة، يستوجب البدء بخطوات عملية تبدأ بسنّ قانون جديد للانتخابات النيابية بثلاثيته المعروفة، الدائرة الواحدة، النسبية، وخارج القيد الطائفي.
هذه فرصة أمام اللبنانيين، للتخلص من النظام الطائفي الذي يعمّم الفساد ويستولد الأزمات والحروب، وكم كان حرياً بأن يكون قيام الدولة المدنية مطلباً سياسياً وحيداً مطروحاً الى جانب المطالب المعيشية.
ولكن، ازدحام الأجندات والشعارات السياسية التي تستهدف في جوانب منها خيارات لبنان وموقعه ومقاومته، طغت على مطلب الدولة المدنية ما فوّت فرصة ذهبية على لبنان واللبنانيين، والذي خفي من وراء زحمة الأجندات والشعارات السياسية، ما هو إلا لإعادة تأبيد النظام الطائفي، لأنّ هذا النظام الطائفي هو حاجة ومصلحة للدول الاستعمارية التي تستثمر فيه. ولقد كان لافتاً ما تضمّنه بيان الجامعتين الأميركية واليسوعية حين وصف التظاهرات بأنها أكبر حركة احتجاج وطنية موحدة منذ عام 1943، وهي صرخة تعبّر عن عميق معاناة واحتياجات شعبنا ورغبتهم الهائلة في إعادة بناء بلدنا على أسس جديدة ! وهذا ما يستدعي السؤال عن الأسس الجديدة التي أشار إليها بيان الجامعتين، وما هي خلفية تصريح رئيس الجامعة الأميركية في بيروت حين أعلن أنّ كلّ مشارك في التظاهرات هو قائد، وماذا يعني حين اعتبر التوقيت الذي اختاره ورئيس الجامعة اليسوعية بأنه ليس صدفة!؟
الشواهد التي تؤكد بأنّ ثمة أجندات حرفت التظاهرات عن أهدافها المطلبية وحوّلتها في اتجاهات مغايرة كثيرة ومنها:
ـ تسجيل مصوّر لأحد الأشخاص حضر الى مكان ما قرب ساحة الشهداء ليعلن خطة عمل أمام جمهرة من الشباب، تدعو الى السيطرة على وظائف الدولة، وإقامة مجالس للشعب في كلّ بلدة ومجلساً في بيروت. وأكد تقرير بثته إحدى القنوات التلفزيونية بأنّ الشخص الذي يتحدث هو أحد المدرّبين الأميركيين!
ـ هتافات تطالب بإبقاء مليون ونصف مليون نازح في لبنان وتحيّي ما يسمّى الثورة السورية ، وشعار من سورية لبيروت ثورة واحدة ما بتموت … وتنظيم مسيرات لطلاب الجامعة الأميركية وجلهم من عائلات ميسورة يهتفون ضدّ المقاومة!
ـ قطع طرقات واعتداء على المواطنين وفرض خوات ذكّرت اللبنانيين بفترات الحرب الأهلية والإدارات المدنية… وشتائم وبذاءات غير مسبوقة تنقل على الهواء مباشرة بما يعكس فوضى أخلاقية هدّامة!
ـ توهين صورة الجيش والقوى الأمنية من خلال منعهم من المرور على بعض الطرقات… بالتزامن مع تجميد المساعدات الأميركية للجيش اللبناني، وإطلاق دعوات لوضع لبنان تحت الفصل السابع وإبراز الأصوات المناهضة للمقاومة وسلاحها!
ـ غروبات واتس أب تدعو إلى التجمّع في نقاط محدّدة وقطع الطرقات. وكلّ غروب منفصل عن الآخر، بما يشبه عمليات تجنيد خلايا لا يعرف بعضها شيئاً عن البعض الآخر… وقيام العديد من الجمعيات والمجموعات التي تعمل مع مؤسّسات ومنظمات دولية بالدعوة إلى التظاهرات ونصب خيم ثابتة في الساحات!
ـ قطع الطرق من قبل بعض الأحزاب في نقاط حساسة تستبطن مشاريع تقسيمية ودعوات للفدرلة صدرت عن بعض المجموعات المرتبطة بالولايات المتحدة الأميركية.
كلّ ما سبق يشي بأنّ جهات ما وغرفاً سوداء لم تستغلّ وجع الناس وحسب، بل ساهمت في إهدار فرص تحقيق بعض المطالب، ومن المفارقات الكبرى، أنّ رؤساء وأساتذة بعض الجامعات وهم أصحاب دخل كبير وميسورو الحال والأحوال، نصبوا انفسهم ناطقين رسميين باسم الفقراء.
واللافت هو ما حدث بعد استقالة الحريري، حيث تصاعد الاصطفاف المذهبي والطائفي، وغابت شعارات الوحدة الوطنية والدولة المدنية عن معظم الساحات. وهكذا فإنّ الجهات والقوى والغرف السوداء التي ركبت موجة التظاهرات وتحكّمت بشعاراتها ومطالبها السياسية، نجحت في إجهاض المطالب المحقة أقله في المرحلة الراهنة، كما نجحت في إعطاء النظام الطائفي فرصة جديدة ليعيد تنظم صفوفه، لكنها بالتأكيد لم تنجح في تعميم الفوضى والنيل من عناصر قوة لبنان.
الأكيد أنّ التظاهرات تشكلت من الفقراء الموجوعين، الذين رفعوا مطالب محقة معلنين رفضهم لكلّ السياسات الاقتصادية التي أثقلت كاهل الناس ووضعت لبنان تحت سلطة البنك وصندوق النقد الدوليين من جراء الاستدانة وفوائد الدين.
والأكيد أنّ إرادة الناس بالتعبير عن وجعها ومطالبها لا بدّ أن تنتصر، ولكن هذه الإرادة تضمحل وتندثر، حين تنجح الأدوات والجهات المشبوهة بحرف الحركة الاحتجاجية عن مسارها وأهدافها وحين توصف التظاهرات بـ الثورة بما يحمل هذا التوصيف من ربط بثورات ما سمّي الربيع العربي ، التي جلبت الفوضى إلى العديد من الساحات العربية.
في لبنان تظاهرات مطلبية محقة وليس ثورة، ومن أطلق عليها توصيف الثورة يتوسّلها أداة للفوضى، بهدف إعادة إنتاج النظام الطائفي بوظائف جديدة…؟
عميد الإعلام في الحزب السوري القومي الاجتماعي