مَن قتل الثّورة في صور؟
استحوذت التّظاهرات الّتي خرجت في مدينة صور على اهتمام إعلاميّ كبير، ودار حولها الكثير من التّحليلات والتّأويلات، حتّى بدت مدينة الإمام الصّدر، لوهلة، مدينة ثائرة على مجدّد حضارتها، وباني عمارتها الحديثة، الرّئيس نبيه برّي، وعلى حركة أمل، الّتي حرّرت المدينة ولبنان من براثن الاحتلال الاسرائيليّ عام 1985 بدماء قادتها وعرق مجاهديها.
هكذا بدت صور في اليومين الأوّلين على فضاء بعض القنوات المشبوهة الدّور والأداء، فبثّت سمومها وفتحت هواءها لتنقل صورة مشوّهة ومضخّمة، بعيدة عن الحقيقة بُعد هذه القنوات نفسها عن الموضوعيّة والمصداقيّة.
ولأنّنا أبناء المدينة وأهلها، و»حارتنا ضيقة والنّاس بتعرف بعض»، إليكم حقيقة ما جرى سماعاً وعياناً، ولمن يرغب بالأرقام والأسماء والصّور، فليراجع القوى الأمنيّة الّتي رصدت وعاينت وأحصت.
في اليوم الأوّل من الحراك، نزل عدد من النّاس إلى الشّارع، مدفوعين بوجعهم وفقرهم ونقمتهم على الواقع الاجتماعي والاقتصادي السّيّئ جدّاً، وكان أكثر المشاركين يسبحون في فلك حركة أمل، إمّا مناصرين وإمّا مؤيدين، ولا حرج لديهم ولا لدى الحركة، بما أنّ رئيسها عبّر في مناسبات عدّة، عن قلقه من تدهور الأمور وانفجار الشّارع لأسباب معيشيّة واقتصاديّة، وهذه التّصريحات موجودة بنصوصها وتواريخها لمن يرغب بمراجعتها، ويعلمون أيضاً، أنّ حركتهم هي حركة المحرومين، وهي الحركة الحاملة حقوقهم، والحامية مطالبهم.
لذلك كانت أعداد المتظاهرين بالمئات، وكانت الشّعارات منسجمة مع أسباب نزول النّاس، وتعبّر عن حقيقة صرختهم شعارات مطلبيّة محقّة، وإذا تعدّت ذلك إلى شعارات سياسيّة، كانت عامّة ولا تستهدف زعيماً أو حزباً بعينه، حتّى انبرى فجأة أحد الشّباب -معروف الجنسيّة والانتماء – حاملاً مكبّراً للصّوت، وبدأ يكيل السّباب والشّتائم للرّئيس نبيه برّي وعائلته وللنّائب محمّد رعد! فتفرّق العدد الأكبر من المتظاهرين وعادوا إلى بيوتهم، دون المبادرة إلى أيّ ردّة فعل. وأكمل الآخرون مسيرة سبابهم وشتمهم وتخريبهم، فقطعوا طرقات المدينة، وشوارعها الدّاخليّة بالإطارات المشتعلة، ورموا حاويات النّفايات في الطّرقات، وأحرقوا استراحة صور السّياحيّة، ثمّ حاولوا اقتحام مكاتب نوّاب المدينة، فحوّلوا صور الآمنة إلى مدينة أشباح، وهم في غالبيّتهم ليسوا من أهل المدينة، بل من بعض القرى والمخيّمات المجاورة.
فعَلَت أصوات الصّوريين الأوفياء لمن حرّر مدينتهم وحمى تنوّعها، وحوّلها إلى جوهرة المتوسّط، ببناها التّحتيّة والفوقيّة، والتّوسعة على مدخليها الجنوبيّ والشّماليّ، وساحاتها وطرقاتها ومهرجاناتها الثّقافيّة، وبحماية شاطئها من أيدي العابثين بالأملاك البحريّة، حتّى صُنّف شاطئ صور مؤخّراً من ضمن الشّواطئ الأربعة الأجمل في آسيا. فتداعى أبناء صور وجوارها إلى مظاهرة تجوب شوارع المدينة، وتؤكّد على هوّيتها ووجهتها، فكانت مظاهرة حاشدة نهار السّبت 19-10-2019، شابها ظهور مسلّح أدانته قيادة الحركة، ووعدت بفتح تحقيق ومحاسبة المخالفين لقرار الحركة فاستعادت صور أنفاسها، وأشرقت من جديد بوجهها الجميل، مذ خرج المشبوهون منها، وبقي العشرات يعتصمون في «ساحة العلم» الّتي ما كانت لولا نبيه برّي. وراحت الأعداد تتضاءل يوماً بعد يوم، رغم تسليط الإعلام عليها بشكل واضح، وانتصرت الأرض الطّيّبة على الفضاء الملوّث، وانتصر وفاء النّاس على تضليل الإعلام، ومات «الحراك المشروع» مقتولاً، فمَن قتله؟
لقد قتله المشبوهون والمدسوسون والمدفوعون، الّذين استفزّوا الشّريحة الأكبر من أهالي صور وجوارها، والّذين أساؤوا وشتموا وسبّوا، وأهانوا الأعراض والكرامات، فهل هكذا تكون الثّورات؟ّ!
وهل كان مَن موّل وحرّك وشجّع وهتف، هل كان حقّاً ضنيناً بحقوق النّاس ومطالبهم؟ أم أنّها كانت محاولة لإسقاط نبيه برّي في أرضه وبين جمهوره، وبالتّالي ضرب المتراس الأوّل للمقاومة وسلاحها، وللبنان وحقوقه في وجه المطامع الإسرائيليّة والأميركيّة، تمهيداً للانتقال إلى المرحلة الثّانية بالتّصويب المباشر على المقاومة وسلاحها!
وها نحن اليوم بعد مرور أكثر من عشرين يوماً على انطلاق الاحتجاجات، نجد الرئيس نبيه برّي يلاقي المتظاهرين الشّرفاء في ساحات اعتصامهم، حاملاً مطالبهم وحقوقهم في بناء دولة مدنيّة لاطائفيّة، تحاسب الفساد، وتؤسّس لبناء وطن نهائيّ على مقاس حلم الإمام موسى الصّدر، الامام الّذي رفع شعارات شباب اليوم، منذ أكثر من خمسين عاماً، ليؤكّد نبيه برّي مجدّداً تعاليه على جراحه الشّخصيّة الّتي ناله بها بعض الموتورين، ويسبق المتظاهرين إلى ساحة البرلمان لإقرار مشاريع قوانين تضمن للّبنانيين تحقيق ما خرجوا لأجله، في ثورة تشريعيّة تضع جميع القوى السّياسيّة، وقادة الحراك الصّادق أمام مسؤوليّاتهم الوطنيّة.
أمّا الّذين استعجلوا الاستثمار على أوجاع النّاس، فلهم في نبيه برّي أسوة وطنيّة حسنة، للتّرفّع فوق المصالح السّياسيّة الضّيّقة، والتّفكير جدّيّاً بخطورة المرحلة وحساسيّتها.. فهل من معتبر؟!
حسن الدّر