مدخل إلى العناصر المكوّنة لنصّ الأدب الوجيز
كامل فرحان صالح
لم يعد خافيًا على المتابع للحراك الأدبي، أن التوجّه العام للنشاط الإبداعي هو في سلوك درب الإيجاز، لا سيما عبر نوعيه الأساسيين: الشعر والقصة. ويمكن تفسير ذلك بمدى قدرة الكلمة/ المفردة على حمل دلالات، أصبح من غير الممكن حصرها.
ولعله من الممكن القول إن هذا التوجّه نحو «الأدب الوجيز»، يتمتع بعناصر لا تبدو متباينة عن العناصر التي تشترك في تكوين العمل الأدبي عمومًا، وأبرزها: التجربة الشعورية، والصدق، والعمق، والمتعة، واللغة، فضلاً عن مؤثرات أخرى تشكل في مجموعها سمات أساسيّة ليكون العمل أدبيًّا. إذًا، وبناء عليه، ثمّة عناصر مشتركة يستمدّها الأدب الوجيز من شجرة الأدب التي أخذت تنمو وتُثمر النصوص الإبداعيّة عبر رحلتها الطويلة، ورغبة المبدع في التعبير باستمرار، عن ذاته ومجتمعه والكون.
لكن، وإذا وافق المرء على هذا المسار أي أخذ اللاحق عن السابق، يبدو أن العنصر الأبرز الذي يعدّ روح الأدب الوجيز، هو: الإيجاز، والكثافة. وهذه «الروح» تؤثر بشكل أو بآخر، بحقل العناصر التي تشترك في تكوين العمل الأدبي عمومًا، وتعمل على بلورتها باستمرار.
لذا، يمكن إعادة بلورة العناصر التي تشترك في تكوين عمل الأدب الوجيز الومضة والقصة الوجيزة ، بحسب الآتي:
التجربة الإنسانية الشعورية: يشتمل العمل على هذه التجربة بحالاتها المتعددة والمختلفة، ويعكس ما يعيشه الأديب أو الفنان ويريد أن يعبّر عنه، إن كان ذلك مباشرة عبر ما يعيشه هو، أو غير مباشرة عبر تجارب الآخرين.
الصدق: يُراد بصدق العمل في الأدب الوجيز، أن ينبعث من حاجة صادقة بعيدة من التصنّع والزيف. لكن، لا بدّ من الاستدراك هنا، للقول: إنه لا يقتضي بهذا الصدق، أن يكون المبدع قد عانى التجربة بنفسه حتى يصفها، بل يكفي أن يكون قد لاحظها، وحسّها، وعرف بفكره عناصرها، وآمن بها،… ولا بدّ أن تعينه «دقة الملاحظة، وقوة الذاكرة، وسعة الخيال، وعمق التفكير»، حتى يخلق هذه التجربة التي تصوّرها عن قرب، على حين لم يخُض غمارها بنفسه. وهذا ما أشار إليه الناقد محمد غنيمي هلال في كتابه «النقد الأدبي الحديث»، عندما لاحظ أن كثيرًا ما يخالف الأديب الواقع والحقيقة الخارجية، مستجيبًا لإحساسه وشعوره، فيصوّر العالم، ليس كما هو، إنما على نحو ما يشعر به.
العمق: يُقصد بعمق التجربة في الأدب الوجيز، توغلها في النفس، فلا تظل صورتها لدى المتلقي، مألوفة، أو عادية، أو هامشية. فعمق الصورة يعني أن تكسر أنماط الحواس لتتطلّع إلى ما وراء الوظائف الأساسية للنظر واللمس والسمع والشم والتذوق، والهدف أن تحرّك في نفس القارئ/المتلقي شعورًا، وتسمو به عن الأصل الذي خرجت منه، وتدفع من خلال النص، إلى تحوير رتابة الحياة، والهامشي فيها، إلى أصل جديد جسده الكلمة وروحه بحر من الدلالات.
المتعة: يقصد بالمتعة ما يحدثه عمل الأدب الوجيز الومضة والقصة الوجيزة من رضا فني لدى المتلقي. ويمكن القول إن عنصر المتعة، ليس جزءًا من طبيعة تكوين هذا الأدب، بل هو أثر له. وقديمًا قال الشاعر والناقد الروماني هوراس Horatius/ 65 – 8 ق.م. بالمتعة والمنفعة، كمقولتين تلخصان هذه الفلسفة التي تحاول أن تترك الأدب لتبحث في آثاره. وفي عصر النهضة الأدبية، لاحظ النقّاد أن العمل الأدبي يحدث الأثرين معًا أي المتعة والمنفعة، وبنجاح، على الرغم من عدم قصده إليهما، أو توجبهما فيه. مهما يكن، ليس من مهام المبدع في الأدب الوجيز أن يشغل باله بتأثير عنصري المتعة والمنفعة على المتلقي، بل جلّ همه أن ينصبّ على التعبير عن تجربته الشعورية إن كان شعرًا أم نثرًا، وتقع على النقّاد لاحقًا، مسؤولية تبيان مدى تأثير هذين العنصرين المتعة والمنفعة على المتلقي.
هـ – اللغة: اللغة مادة الأدب عمومًا والأدب الوجيز خصوصًا، فهي الحاملة للتجربة الشعورية الموجودة في نفس الإنسان، حتى قبل التعبير عنها، لكنها لا تتحوّل إلى أدب إلا بعد التعبير عنها في صورة لفظية ما، أي بواسطة اللغة فاللغة كما يقول الناقدان الغربيان رينيه ويليك وأستن ارين في كتابهما «نظرية الأدب»، هي «مادة الأديب»، وعليه أن يلمّ بها من ناحية الألفاظ والعبارات ودلالاتها وارتباطاتها، بل عليه أن يُغذّيها ويوسّع آفاقها فكل كلمة لها دلالة تختلف حتى عن مرادفها اختلافًا ما، ولو كان بسيطًا، وقد قيل: «لا ترادف في اللغة» فالتجربة نفسها إذا ما صيغت في صورتين لفظيتين، لا تكون هي نفسها في كلتا الصيغتين. ويمكن للمرء هنا، أن يدخل علامات الوقف والترقيم، ومساحة البياض تحت عنصر اللغة في الأدب الوجيز، لسبب أن هذه العلامات من جهة، والبياض المقابل للنصّ من جهة أخرى، من المكوّنات الأساسية للغة النصّ الإبداعي الوجيز، إذ ترتفع أهمية استخدام العلامات في النص والمساحة البيضاء المخصّصة لعالم المتلقي/القارئ، لتشكّل مع طاقة المفردة الإيحاءات اللامحدودة للمعنى في «الومضة»، ولنمو الأفعال في «القصة الوجيزة».
يبقى القول، إن وظيفة التعبير في الأدب الوجيز لا تنتهي عند الدلالة المعنوية للألفاظ والعبارات، بل تُضاف إليها مؤثرات أخرى يكتمل بها الأداء الفني، وهي جزء أصيل من التعبير الأدبي الوجيز، وأبرز هذه المؤثرات: الإيقاع الموسيقي الداخلي للكلمات، والصور والظلال التي تشيعها المفردة، وتشيعها العبارات الخارجة على المعنى الذهني المباشر، ثم طريقة التناول في النصّ الإبداعي الوجيز والسير فيه، أي الأسلوب الذي تعرض به التجارب، وتنسق على أساسه الكلمات والعبارات. وإذا كانت لغة العلم تنقل الدلالة العامة المتفق عليها بين الناس، فإن لغة الأديب عمومًا، والوجيز خصوصًا، تشكل لغة إيحائية، لا تكتفي بأن تقرّر وتعبّر عمّا تقول، لكنها تهدف من دون أن تقصد، إلى «التأثير في اتجاه القارئ، وإقناعه، وتغييره»، على حدّ تعبير الناقد عز الدين إسماعيل في كتابه «الأدب وفنونه». وإذا كانت لغة الكلام العادي تسعى إلى مطابقة الواقع، فإن شرط لغة الخطاب في الأدب الوجيز أن تحمل شحنة عاطفية بكثافات متفاوتة، وإلا لا تكون.
أستاذ في الجامعة اللبنانية