السلوك الأميركي المتغطرس والمتناقض في سورية…
د. جمال زهران
استمعت وقرأت آخر أحاديث وزير الخارجية الأميركي بومبيو ، عن الوجود الأميركي بسورية، فقال: «إنّ أميركا لم تنسحب من سورية مطلقاً، وإنّ القوات الأميركية لا زالت تعمل على الأرض»!
وفي نفس وقت إذاعة ونشر هذه التصريحات، فوجئت بتقرير مصوّر وموثق لقناة «المنار» اللبنانية، تدخل المنطقة التي كانت القوات الأميركية تتواجد فيها قبل الانسحاب، وتدخل منطقة حقول البترول، والتي تردّد أو ردّدت أميركا على لسان رئيسها المتغطرس ترامب ، أنّ القوات الأميركية موجودة في منطقة حقول النفط، للحفاظ علي استخراجه ونقله إلى أميركا! لتؤكد أنّ حقول النفط السورية تحت سيطرة القوات السورية وتحت الحماية الروسية. ومن ثمّ ثبت كذب التصريحات الصادرة عن وزير الخارجية الأميركي الكاذب والمتغطرس.
وتأتي التصريحات الكاذبة والمتناقضة على لسان ثلاثة أشخاص في الإدارة الأميركية وهو رئيس الدولة ترامب ، ثم وزير الدفاع، ثم وزير الخارجية بومبيو .
وقد لاحظت أنّ الأكاذيب والتناقضات تأتي على لسان الرئيس الأميركي ترامب ، ووزير خارجيته بومبيو ، ولا تأتي هذه التصريحات التي تتسم بعدم المسئولية والتناقض والغطرسة، على لسان وزير الدفاع غالباً.
فوزير الدفاع في إطار متابعة تصريحاته قال إنّ عدد قواته في سورية كان نحو 1000 شخص، تمّ تحريكهم إلى الأراضي العراقية وفي إحدى القواعد العسكرية القريبة من الحدود السورية!
وقد ظهرت هذة التناقضات في الخطاب الأميركي منذ أكثر من عام، حيث أعلن الرئيس الأميركي ترامب، قراره بسحب القوات الأميركية من سورية نهائياً، وقد أعقبته فوراً استقالة وزير الدفاع ومستشار الأمن القومي، وبعض موظفيه في البيت الأبيض، لعدم موافقتهم على هذا القرار غير المسؤول على حد تعبيرهم. وقد سبق أن فسّرت هذا القرار وتلك الاستقالات، وفقاً لمعرفتي بمنظومة صنع القرار السياسي الأميركي، بأنه قد تمّ التشاور بين الرئيس الأميركي ترامب ومساعديه حول هذا القرار، ورفض مساعدوه ذلك، ورغم ذلك الرفض، انفرد الرئيس بقراره وأعلن الانسحاب، فكانت الاستقالات الفورية والمدوية، والمفاجئة للرئيس ترامب. بينما هناك بعض المعلومات تشير إلى أنّ ترامب لا يعير مساعديه أيّ اهتمام ولا يتشاور معهم، ويحاول التسويق لفكرة «الزعيم السياسي»، فانفرد بالقرار دون علم مساعديه، فكانت الاستقالات، ويعزز من ذلك الاحتمال بأنّ ترامب عادة ما يدعم ويشكر بعض الرؤساء الديكتاتوريين الطغاة في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وله مقولة شهيرة في الاحتفاء بأحد هؤلاء بالقول: «أهلا… بديكتاتوري المفضل»! والغريب أنه بعد إعلان ترامب ذلك القرار بالانسحاب منذ أكثر من عام، لم نجد انسحاباً فعلياً للقوات الأميركية، الأمر الذي يشير إلى أنّ ترامب بعد أن أتى بفريق عمل جديد وزير دفاع ومستشار أمن قومي وغيرهما ، تعمد تهدئة الأوضاع، وتراجع عن تنفيذ القرار أو التأخير في التنفيذ! ثم عاد ترامب مرة أخرى إلى ضروة الاستمرار في تنفيذ القرار مصرّاً على الانسحاب، فبدأ بتشجيع تركيا على العدوان على الأراضي السورية في الشمال، والشمال الشرقي واتفاق الدولتين أميركا، وتركيا على منطقة حدودية تحت السيطرة التركية، ثم باع الأكراد، ثم باع قوات سورية الديموقراطية قسد ، ويعلن مرة أخرى الانسحاب الأميركي من سورية نهائياً، تاركاً كلّ أتباعه إلى المجهول!
الأمر الذي أكد ويؤكد الانتصار السوري الحاسم، ويؤكد الفشل الأميركي الواسع والجاذم. وعلى إثر ذلك تقدّمت القوات السورية في إقليم الرقة والحسكة وما حولهما، بل واستعادت القوات السورية السيطرة على آبار البترول بعد ثمانية أعوام خارج السيطرة السورية.
وحفاظا على ماء الوجه، وممارسة أبشع أنواع الغطرسة الأميركية، نجد تصريحاً جديداً للرئيس ترامب، يتضمّن استمرار عدد محدود من القوات الأميركية حول حقول النفط السورية لضمان ضخها لحسابه، على أساس أنه قد أصبح لأميركا الحق في ذلك! ثم نجد تصريحاً آخر على لسان مسؤول أميركي أنّ أميركا لا تسرق بترول سورية! وتصريحاً آخر بأنّ القوات الأميركية انسحبت نهائياً وتركت الأمر للقوات السورية، والقوات التركية! بينما تعلق روسيا على ذلك، بأنّ أميركا تأخذ البترول السوري عنوة وهو ليس حقاً لها، وأنها تدعم سورية في الحفاظ على حقول نفطها. ثم تأتي آخر التصريحات على لسان بومبيو، أشرت اليها في المقدّمة، بأنّ القوات الأميركية لم تنسحب ولا زالت تعمل على الأرض! وهو في الحقيقة كاذب للغاية.
فالواقع أنه لم تعد هناك قوات أميركية في الأرض السورية، بل تحرّكت إلى العراق، ولكن مثل هذه التصريحات المتناقضة تعبّر عن الغطرسة الأميركية بعد زوال نفوذها من الشرق الأوسط وفي طريقها للأفول كقوة عظمى، وينفرط عقد الموالين لأميركا في المنطقة.
أستاذ العلاقات الدولية
ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية